الثالث : أنَّ حركة تلك الأجزاء الأرضيَّةِ النَّازلة لا تكونُ حركة قاهرةً، فإنَّ الرِّياح إذا أحضرت الغُبَارَ الكَثِيرَ، وعاد ذلك الغُبَارُ ونزل على السُّطُوحِ، لم يحسَّ أحَدٌ بنزولها ونرى هذه الرِّياح تقلعُ الأشْجَارَ، وتهدمُ [ الجِبَالَ ]، وتموجُ البِحَارَ.
الرابع : لو كانَ الأمرُ على ما قالوهُ لكانت الرِّياحُ كلَّما كانت أشَدَّ وجب أنْ يكون حُصُولُ الأجزاء الغباريَّةِ الأرضيَّةِ أكثر، لكنَّهُ ليس الأمر كذلِكَ؛ لأنَّ الرِّيَاحَ قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البَحْرِ، مع أن الحِسَّ يشهدُ بأنَّهُ ليس في ذلك الهواء العَاصفِ شيء من الغبارِ والكدورة، فبطل بهذه الوجوه العقليَّةِ ما ذكروه في حركةِ الرِّياحِ.
وقال المُنَجِّمُونَ : إن قوى الكَواكبِ هي الَّتي تحرك هذه الرِّياح، وتوجبُ هبوبَها، وذلِكَ أيضاً بعيد؛ لأنَّ الموجب لحركةِ الرِّياح إن كانت طَبِيعةُ الكواكبِ؛ وجب دوامُ الرِّياح بدوام تلك الطبيعة، وإن كان الموجبُ هو طبيعةُ الكواكبِ بشرط حصوله في البُرْجِ المُعَيَّنِ، أو الدَّرجةِ المعيَّنَةِ؛ وجب أن يتحرك هواء كل العالم، وليس كذلك.
وأيضاً قد ثبت في العقليَّاتِ أنَّ الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ، فاختصاص الكوكب المعين والبرج المعيَّنِ بالطَّبيعة التي اقتضت ذلك الأثر لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعلِ المُخْتَارِ، فثبتَ بهذا البرهان العقليِّ أنَّ محرك الرِّياح هو الله - سبحانه وتعالى - وأيضاً فقوله تعالى :« نشراً » أي مُنَشَّرَةً متفرقةً، فجزء من أجزاء الريح يذهب يُمَنْةً، وجزء آخرُ يذهبُ يُسْرَةً، وكذا سَائِرُ أجزاء الرِّياحِ، كلُّ واحد منها يَذْهَبُ إلى جانب آخر، ولا شكَّ أنَّ طبيعة الهواءِ طبيعةٌ واحدةٌ، ونسبة الأفلاكِ والانْجُم والطَّبائع إلى كلِّ واحدٍ من الأجَزْاءْ التي لا تتجزَّأ من تلك الريح نسبة واحدة، فاختصاصُ بعضِ أجْزَاءِ الرِّيح بالذَّهَابِ يمنةً، والجزءُ الآخر بالذَّهَابِ يًسْرَةً يجبُ أن يكُون ذلك بتخصيص الفاعل المُخْتَارِ.
قوله :« بَيْنَ » : ظَرْفٌ ل « يُرْسِلُ »، أو للبشارة فيمن قرأه كذلك.
وقوله :﴿ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ أي بين يدي المَطَرِ الذي هو رحمته، وحسنُ هذا المجاز أنَّ اليدين تستعملهما العربُ في معنى التقدُمَةِ على سبيل المجاز؛ يقال إن الفتن تحدثُ بين يدي السَّاعةِ يريدونَ قبلها، وذلك لأنَّ يدي الإنسان مُتَقَدِّمَانِهِ، فكل ما يتقَدَّمُ شيئاً يطلق عليه لفظ اليَدَيْنِ مجازاً لهذه المشابَهَةِ، كما تقولُ لمن أحسن إليك وتقدَّم إحسانه، له عندي أيادٍ، ولما كانت الرِّيَاحُ تتقدَّمُ المطر عَبَّرَ عنه بهذا اللفظ.
فإن قيل : قد نجد المطرَ لا يتقدَّمُهُ ريَاحٌ، فنقول : ليس في الآية أنَّ هذا التَّقدُّمَ حاصل في كلِّ الأحوال، وأيضاً يجوز أن تتقدَّمَهُ هذه الرِّياحُ وإن كنَّا لا نعرفها.
قوله :﴿ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ ﴾ غاية لقوله :« يُرْسِلُ »، وأقلَّت أي حملت من أقْلَلْتُ كذا أي : حملته بسهُولَةٍ.
قال صاحبُ « الكشَّافِ :» واشتقاقُ الإقلال من القلَّةِ، فإن مَنْ يرفعُ شيئاً فإنَّهُ يرى ما يرفعه قليلاً، أقلَّهُ أي حمله بِسُهُولَةٍ، والقُلَّةُ بضمِّ القافِ هو الظَّرْفُ المعروف وقِلال هَجَرٍ كذلك؛ لأنَّ البعيرَ يُقِلُّها أي يحملها.