﴿ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨٨ ] ثم أكد إصْرَارَهُمْ على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله :﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ ثم قال :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ أي : اقْتَدِ بهم في نَفْيِ الشرك، وإثبات التوحيد، وتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الجُهَّال.
وقال آخرون : اللفظ مُطْلَقٌ فيحمل على الكل إلاَّ ما خَصَّهُ الدَّليل المُنْفَصِلُ.
قال القاضي يبعد حَمْلُ هذه الآية على أمْرٍ الرَّسُولِ بِمُتَابَعَةِ الأنبياء المُتقدِّمين في شَرَائِعِهمْ لوجوه :
أحدهما أن شرائعهم مختلفة مُتناقِضَةٌ فلا يَصِحُّ مع تَنَاقُضِهَا أن يكون بالاقْتِدَاءِ بهم في تلك الأحْكَامِ المُتناقِضَةِ.
وثانيها : أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العملِ، وإذا ثبت هذا، فنقولُ : دليل ثباتِ شَرْعِهِمْ كان مخصوصاً بتلك الأوْقَاتِ فقط، فكيف يُسْتَدَلُّ بذلك على اتِّبَاعِهِمْ في شرائعهم في كل الأوقات.
وثالثها : أن كونه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُتَّبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون مَنْصِبُهُ أقَلَّ من مَنْصِبِهِمْ، وذلك بَاطِلٌ بالإجماع، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حَمْلُ الآية على وُجُوبِ الاقْتِداءِ بهم في شَرَائِعِهمْ.
والجواب عن الأول، أن قوله :« فَبُهَداهمُ اقْتَدِه » يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض تلك الأحْكَامِ مُتَنَاقِضَةً بحسب شرائعهم، فنقول : العام يجب تخصيصه في هذه الصُّورة، ويقى فيما عداها حُجَّة.
وعن الثاني : أنه - ﷺ - لو كان مأموراً بأن يَسْتَدِلَّ بالدليل الذي اسْتَدَلَّ به الأنبياءُ المتقدِّمُون لم يكن ذلك مُتَابَعَةً؛ لأن المسلمين لما اسْتَدَلُّوا بحدوث العالم على وجود الصانع لايقال : إنهم مُتَّبِعُونَ لليهود والنَّصارى في هذا الباب؛ لأن المستدلَّ بالدليل يكون أصلاً في ذلك الحكم، ولا تعلُّ له بمن قبله ألْبَتَّةَ، والاقتداء والاتِّبَاعُ لا يحصل إلا إذا كان فعل الأوَّل سَبَباً لوجوب الفِعْلِ عن الثاني.
وعن الثالث : أنه أمر الرَّسُولَ بالاقْتِدَاءِ بجميعهم في جميع الصِّفَاتِ الحميدة، والأخلاق الشريفة، وذلك لا يوجب كونه أقَلَّ مرتبة من الكُلِّ على ما يأتي في الفَصْلِ الذي بعده.
فصل في أفضلية نبينا محمد ﷺ
احْتَجَّ العملاء بهذه الآية على أن الرَّسول ﷺ أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلام؛ لأن خِصَالَ الكمالِ وصفاتِ الشَّرفِ كانت مفرّقة فيهم ف « داود » و « سليمان » كانا من أصاحب الشكر على النعمة، و « أيُّوب » كان من أصحاب الصَّبْرِ على البلاءِ، و « يوسف » كان جَامِعاً لِهَاتيْنِ الحالتين، و « موسى » ﷺ كان صاحب الشرعيةِ القويَّةِ القاهرة، والمعجزات الظاهرة و « زكريا » و « يحيى » و « عيسى » و « إلياس » كانوا أصحاب الزُّهْدِ، و « إسماعيل » كان صاحب الصِّدْق و « يونس » كان صاحب التَّضَرُّعِ.