قوله : وما قدروا الله حق قدره الآية الكريمة.
اعلم أن مَدَارَ القرآن على إثْبَاتِ التوحيد والنُّبُوَّةِ، فالله - تعالى - لما حَكَى عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام- أنه أثْبَتَ دليل [ التوحيد، ] وإبطال الشرك ذَكَرَ بعده تَقْرِيرَ أمر النبوة، فقال :« وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ » حين انركوا النُّبُوَّةَ والرسالة، فهذا بيان وَجْهِ النَّظْمِ. « حَقّ قَدْرهِ » منصوب على المَصْدَرِ، وهو في الأصل صِفَةٌ للمصدر، فلما أضيف الوصف إلى موصوفه انْتَصَبَ على مَا كَانَ يَنْتَصِبٌ عليه مَوْصُوفُهُ، والأصل قدره الحقّ كقولهم :« جَرْد قَطِيفَة وسحق عمامة ».
وقرأ الحسنُ البَصْرِيُّ «، وعيسى الثقفي :» قَدَّروا « بتشديد الدَّال » قدَره « بتحريكها، وقد تقدَّم أنهما لُغَتَانِ. قوله :» إذْ قَالُوا « مَنْصُوبٌ ب » قدروا «، وجعله ابن عطية منصوباً ب » قدره « [ وقي كلام ابن عطية ما يشعر بأنها ] للتعليل، و » من شيء « مفعول به زيدت فيه » من « لوجود شَرْطَي الزيادة.
فصل في معنى الآية
قال ابن عبَّاسٍ : ما عَظَّمُوا الله حقَّ تعظيمه.
وروي عنه أيضاً أنه قلا : معناه ما آمنوا أن الله على كُلِّ شيء قدير.
وقال أبو العَالِيَةِ : ما وصفوا الله حقَّ صِفَتِهِ.
وقال الأخْفَشُ : ما عرفوه حَقَّ معرفته، وحقَّق الواحدي رحمه الله - تعالى - فقال : قَدَرَ الشَّيءَ إذا سَبَرَهُ وحَرَّرَهُ، وأراج ان يعمل مقداره يقدره بالضمير قدراً، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام :» إن غُمَّ عليْكُمْ فاقْدرُوا لَهُ « أيك فاطلبوا أن تَعْرِفُوهُ هذا أصله في اللغة، ثم يقال لمن عرف شَيْئاً : هو يَقْدِرُ قَدْرَهُ، وإن لم يعرفه بِصِفَاتِهِ : إنه لا يقدر قَدْرَهُ، فقوله :» ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ « صحيح في كُلِّ المعاني المذكورة ولما حكى عنهم أنهم ما قَدَرُوا اللَّه حَقَّ قدره بيَّن السَّبَبَ فيه، وهو قولهم :﴿ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ﴾.
واعلم أن كُلَّ من أنكر النُّبُوَّةَ والرِّسَالَة فهو في الحقيقة ما عرف الله حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وتقديره من وُجُوهٍ :
الأول : أن مُنْكِرَ البعث والرسالة إما أن يقول : إنه - تبارك وتعالى- ما كَلَّفَ أحداً من الخَلْقِ [ تكليفاً أصلاً ] أو يقول : إنه - تبارك وتعالى - كَلَّفَهُمْ، والأول باطل؛ لأن ذلك يقتضي أنه - تبارك وتعالى- أبَاحَ لهم جَمِيعَ المُنْكَراتِ والقبائح، نحو [ شَتْم ] الله وَوَصْفه بما لا يليق به والاسْتِخْفَاف بالأنبياء- عليهم الصَّلاة والسَّلام- والرسل، والإعراض عن شُكْرِ الله - تعالى - ومُقَابَلَة الإنْعَام بالإساءة، وكل ذلك باطل.
وإن سلم أنه - تعالى- كَلَّفَ الخَلْقَ بالأمر [ والنهي فهاهنا لا بُدَّ ] من مُبَلِّغٍ وشارع مُبَيِّنٍ، وما ذلك إلاَّ للرَّسُولِ.