قوله :« يُورِثهَا » في محلِّ نصب على الحَالِ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : الجلالة، أي هي له حال كونه مُورِثاً لها من يشاؤه.
والثاني : أنَّه الضَّميرُ المستترُ في الجَارِّ أي : إنَّ الأرضَ مستقرة للَّهِ حال كونها مُوَرَّثَةً من الله لمن يشاءُ، ويجوز أن يكون « يُورِثُهَا » خبراً ثانياً، وأنْ يكون خبراً وحده، و « لِلَّهِ » هو الحالُ، و « مَن يشاءُ » مفعولٌ ثاني ويجوزُ أن تكون جملةً مستأنفة.
وقرأ الحسنُ، ورُويت عن حفص « يُوَرِّثُهَا » بالتشديد على المبالغة، وقرئ « يُورَثها » بفتح الراء مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل هو :« مَن يَشَاءُ ». والألفُ واللاَّم في « الأرض » يجوزُ أن تكون للعهدِ، وهي أرضُ مصر كما تقدَّم، أو للجنس، وقرأ ابن مسعود بنصب « العَاقِبَة » نسقاً على الأرض و « للمتَّقينَ » خبرُها، فيكون قد عطف الاسم على الاسم، والخبر على الخبر فهو مِنْ عطف الجمل.

فصل


قال الزخشريُّ : فإن قلت : لِمَ أخليَتْ هذه الجملة من الواو وأدخلتْ على الَّتي قبلها؟.
قلت : هي جملةٌ مبتدأةٌ مستأنفةٌ، وأمَّا :« وقَالَ الملأ » فهي معطوفة على ما سبقها من قوله :﴿ وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ ﴾. والمرادُ من قوله :« والعاقِبَةُ » أي النَّصْرُ والظفر، وقيل : الجَنَّةُ.

فصل


قوله :﴿ قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾. لما هدَّد فرعونُ قوم موسى وتوعدهم خافوا، و ﴿ قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا ﴾ لأنَّهم كانُوا قبل مجيء موسى - ﷺ - كانوا مستضعفين في يد فرعون، يأخذُ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمالِ الشَّاقة، ويمنعهم من الترفة، ويقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، فلمَّا بعث اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسلام - قوي رجاؤُهم في زوال تلك المضار، فلما سمعوا تهديدَ فرعون ثانياً عظُم خوفُهثم، فقالوا هذا الكلام.

فصل


فإن قيل : هذا القول يدلُّ على كراهتهم مجيء موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك يوجب الكفر.
فالجواب : أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لمَّا جاء وعدهم بزوال تلك المضار فَظَنُّوا أنَّهَا تزول على الفور، فلَّما رأوا أنَّهَا ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد، فبيَّن لهم موسى - عليه السلام - أن الوعدَ بإزالتها لا يُوجِب الفور، بل لا بدَّ أن يستنجزَ ذلك الوعد في الوقت المقدر لَهُ.
فالحاصل أنَّ هذا ما كان نُفرةً عن مجيء موسى بالرِّسالةِ، بل استكشافاً لكيفية ذلك.
فعند هذا قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ﴾. قال سيبويه :« عَسَى » طمع وإشفاق. قال الزَّجَّاجُ : وما يطمع اللَّه فيه فهو واجب.
ولقائل أن يقول : هذا ضعيف؛ لأنَّ لفظ « عسى ههنا ليس كلام اللَّه بل هو حكاية عن كلام موسى، ويُجاب بأنَّ هذا الكلامِ إذا صدر عن الرسول الذي ظهرت نبوته بالمعجزات أفاد قوة اليقين فَقَوَّى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - قلوبهم بهذا القولِ وحقَّق عندهم الوعدَ ليصبروا ويتركوا الجزع المذموم.


الصفحة التالية
Icon