وقوله ﴿ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ كقوله ﴿ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ من جواز الوجهين وما ذُكِر فيهما.
والتَتْبيرُ : التَّكسير، والتَّحطيم. والبطلان قيل : عدم الشَّيءِ إمَّا بعد ذاته، وإما بعدم فائدته ومقصوده.
قوله :« أغَيْرَ اللَّهِ » الهمزةُ للإنكار، والتَّوبيخِ، وفي نَصْبِ غير وجهان : أحدهما : أنَّه مفعولٌ به ل « أبْغِيكُمْ » على حذفِ اللاَّمِ، تقديره : أبغي لكم غير اللَّهِ، أي : أطلُبُ لكم فَلَمَّا حذف الحرف، وصل الفعل بنفسه، وهو غيرُ منقاص، وفي إلهاً على هذا وجهان : أظهرهما : أنَّهُ تمييز ل « غير »، والثاني : أنَّهُ حالٌ، ذكره أبو حيان وفيه نظر.
والثاني : من وجهي « غير » : أنَّهُ منصوب على الحال من إلهاً وإلهاً هو المفعول به ل « أببْغِيكُمْ » على ما تقرَّرَ صفةُ النَّكرةِ عليها نُصِبتْ حالاً.
وقال ابنُ عطيَّة : و « غير » منصوبة بفعل مضمر، وهذا هو الظَّاهِرُ، ويجوزُ أن يكون حالاً. وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ إليه فإن أرَادَ أنَّهُ على الاشتغال فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ شرطهُ أن يعمل المفسِّر في ضميرِ الأوَّل، أو سببه.
قوله :« أبْغِيكُمْ » قال الواحديُّ.
يقال : بَغَيْتُ فلاناً شيئاً وبغيتُ له.
قال تعالى :﴿ يَبْغُونَكُمُ الفتنة ﴾ [ التوبة : ٤٧ ] أي : يبغون لكم. والمعنى : أطلبُ لكم غير اللَّه معبوداً.
واعلم أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما قالوا له :﴿ اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ أجابهم بوجوهٍ كثيرة : أوَّلُهَا : حكم عليهم بالجَهْل فقال :﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾.
وثانيها : قوله :﴿ إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ أيْ : بِسَبَبِ الخسران والهلاك.
وثالثها : قوله :﴿ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي هذا العَمَلُ الشَّاقُّ لا يفيدُهم نفعاً في الدُّنْيَا والدِّينِ.
ورابعها : استفهامُهُ منهم على وجه الإنكار والتَّوبيخ، فقال :﴿ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين ﴾ أي : أن الإله ليس شيئاً يطلب ويتخذ، بل الإله هو الذي يكون قادراً على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة، وجميع النِّعم، وهو المُرَادُ بقوله :﴿ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين ﴾، فهذا هو الذي يجبُ على الخلق عبادته، فكيفَ يجوزُ العُدُولُ عن عبادته إلى عبادة غيره.
قوله :﴿ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ ﴾ يجوز أنْ يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ، إمَّا من اللَّهِ وإمَّا من المخاطبين، لأنَّ الجملةَ مشتملةٌ على كلٍّ مِنْ ضَميرَيْهِمَا، ويجوزُ ألاّ يكونَ لها محلٌّ، لاستئنافها.
وفي هذا التَّفضيل قولان : الأول : أنَّهُ تعالى فضلكم على علامي زمانِكم، الثاني : أنَّهُ تعالى خَصَّهمْ بتلك الآياتِ القاهرةِ، ولم يحصل مِثْلُهَا لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصَال، مثل : رجل تعلم علماً واحداً، وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحدِ يفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحدِ، إلاَّ أنَّ صاحب العلوم الكثيرة يفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة.


الصفحة التالية
Icon