الثاني : أنها في مَحَلِّ نصب نَعْتاً لمصدر محذوف، أي : مجيئاً مثل مجيئكم يوم خلقناكم، وقجره مكي : منفردين انفراداً مثل حالكم أول مرة، والأوّل أحسن؛ لأن دلالة الفعل على المَصْدَرِ أقوى من دلالة الوَصْفِ عليه.
الثالث : أن « الكاف » في مَحَلِّ نصب على الحال من الضمير المُسْتكنِّ في « فُرَادى »، أي : مشبهين ابتداء خلقكم، وكذا قَدَّرهُ أبو البقاء، وفيه نظر؛ لأنهم لم يشبهوا بابتداء خلقهم، وصوابه أن يقدر مُضَافاً أي : مشبهة حالكم حال ابتداء خلقكم.
قوله :« أوَّلَ مَرَّة » مَنْصُوبٌ على ظرف الزمان، والعامل فيه « خلقناكم »، و « مرة » في الأصل مصدر ل « مَرَّ يَمُرُّ مَرَّةً » ثم اتُّسِعَ فيها، فصارت زماناً.
قال أبو البقاء رحمه الله :« وهذا يَدُلُّ على قوة شبه الزمان بالفعل ».
وقال أبو حيان :« وانتصب » أوَّل مرة « على الظرف، أي : أول زمان ولا يتقدَّر أوّل خلق؛ لأن أول خلق يستدعي خَلْقاً ثانياً، إنما ذلك إعادة لا خَلْقٌ ».
يعني : أنه لا يجوز أن يكون المرَّة على بابها من المَصْدَريَّةِ، ويقدر أوّل مرة من الخَلْقِ لما ذكر.
قوله :« وتَرَكْتُمْ » فيها وجهان :
أحدهما : إنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل « جئتمونا »، و « قد » مضمرة على رأي الكوفيين أي : وقد تركتم.
والثاني : أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافها، و « ما » مفعولة ب « ترك »، وهي موصولة اسمية، ويضعف جعلها نَكِرَةً موصوفة، والعائد محذوف، أي : ما خَولناكُمُوهُ، و « ترك » متعدية لواحد؛ لأنها بمعنى التخلية ولو ضمنت معنى « صيَّر » تعدَّت لاثنين، و « خوَّل » يتعدَّى لاثنين؛ لأنه بمعنى « أعطى وملك »، والخول ما أعطاه الله من النِّعم.
قال أبو النجم :[ الرجز ]
٢٢٤٠- كُومِ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّل... فمعنى : خولته كمن أملكته الخول فيه كقولهم : خوَّلته، أي : ملكته المال.
وقال الرَّاغب : التَّخْوِيلُ في الأصل إعطاء الخول.
وقيل : إعطاء ما يصير له خولاً وقيل : إعطاء ما يحتاج أن يتعهَّدَهُ من قولهم :« فلان خال ما وخايل مال أي حسن القيام عليه ».
وقوله :« وَراءَ ظُهُورِكُمْ » متعلّق ب « تركتم » ويجوز أن يضمن « ترك » هنا معنى « صيَّر »، فيتعدى لاثنين : أولهما الموصول، والثاني هذا الظرف متعلّق بمحذوف، اي : وصيّرتم بالتَّرْكِ الذي خَوَّلناكموه كائناً وراء ظهوركم.
قوله تعالى :« وَمَا نَرَى » الظَّاهر أنه المُتعدِّية لواحد، فهي بصرية، فعلى هذا يكون « معكم » متعلّق ب « نرى »، ويجوز أن يكون بمعنى « علم، فيتعدى لاثنين، ثانيهما هو الظرف، فيتعلّق بمحذوف، أي : ما نراهم كائنين معكم، أي مصاحبتكم.