وتوجيه قرءاة أبي عمرو في رواية الأعور عنه في « مستودع » بالكسر على أن يجعل الإنسانُ كأنه مُسْتَوْدِعُ رزقه وأجله حتى إذا نَفِدَا كأنه رَدَّهُمَا وهو مجاز حَسَنٌ، ويقوي ما قلته قول الشاعر :[ الطويل ]
٢٢٦٧- وَمَا المَالُ والأهُلُونَ إلاَّ وَدِيعَة | ٌ وَلاَ يَوْماً أنْ تُرَدَّ الوَدَائعُ |
والإنْشَاءُ : قَسِيمُ الخَبَرِ، وهو ما لم يكن له خَارجٌ، وهل هو مندرج في الطَّلَب أو بالعكس، أو قسم برأسه؟ خلاف.
وقيل على سبيل التقريب : هو مقارنة اللفظ لمعناه.
قال الزمخشري :« فإن قلت : فلم قيل :» يعلمون « مع ذكر النجوم، و » يفقهون « مع ذكر إنشاء بني آدم؟
قلت : كأن إنْشَاءَ الإنْسِ من نَفْسِ واحدة، وتصريفهم على أحوالهم مختلفة ألْطَفُ وأدَقُّ صنعة وتدبيراً، فكان ذكر الفِقْهِ الذي هو استعمال فِطْنَةٍْ، وتَدْقِيقُ نَظَرٍ مُطابقاً له ».
فصل في تفسير الاستقرار
قال ابن عبَّاسٍ في أكثر الروايات : إن المستقر هو الأرْحَامُ، والمستودع الأصلاب.
قال كريب : كتب [ جرير إلى ] ابن عباس يسأله عن هذه الآية الكريمة، فأجاب :« المستودع » : الصّلب، و « المستقر » : الرحم، ثم قرأ ﴿ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ ﴾ [ الحج : ٥ ].
قال سعيد بن جبير : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هل تزوجت؟ قلت : لا، قال : أما إنه ما كان من مستودع في ظهرك، فسيخرجه الله عزَّوجلَّ ويؤيده أيضاً أن النُّطْفَة لا تبقى في [ صُلْبِ الأب زماناً طويلاً والحنين يبقى في رحم الأم زماناً طويلاً فلما كان المُكْثُ في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم ] أولى.
وقيل :« المستقر » صلب الأب، و « المستودع » رحم الأم؛ لأن النطفة حَصَلَتْ في صُلِب الأب لا من قبل الغير، وحصلت في رحم [ الأم بفعل الغير ] فأشبهت الوديعة كأنَّ الرجل أوْدَعَهَا ما كان مستقرّاً عنده.
وقال الحسنُ :« المستقر » حَالهُ بعد الموت، و « المتسودع » حالُهُ قبل الموت؛ لأنه أشبه الوديعَةَ لكونها مُشْرِفَةً على الذَّهابِ والزَّوال وقيل العكس.
وقال مجاهد :« مستقر » على ظَهْرِ الأرض، و « مستودع » عند الله في الآخرة؛ لقوله تعالى ﴿ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ ﴾ [ البقرة : ٣٦ ].
وقيل : المستودع : القبر، والمستقر : الجنة والنار.
وقال أبو مُسْلِمٍ : تقديره : هو الذي أنشأكم من نَفْسٍ واحدة، فمنكم ذكر ومنكم أنثى إلاَّ أنه - تبارك وتعالى- عبَّر عن الذَّكرِ بالمستقر، لأن النُّطْفَةَ ما تتولَّدُ في صلبه، وتستقر هناك، وعبر عن الأنْثَى بالمتسودع؛ لأن رَحمَهَا شبيه بالمستودع لتلك النُّطْفَةِ، والمقصود من ذكر الله التِّفَاوُت في الصفات أن هذا الاختلاف لا بد له من سببٍ ومؤثّر وذلك هو الفاعل المُخْتَارُ الحكيم.