وثالثها : أنه تبارك وتعالى- قال بعد هذه الآية :﴿ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ [ الأنعام : ١٠٤ ] وهذا تصريح بكون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك، وأنه لا مانع له ألْبَتَّةً من الفعل والترك، وذلك يَدُلُّ على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى [ إذ لو كان مخلوقاً لله - تعالى - لما ] كان العَبْدُ مستقلاً به؛ لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع من العبد دفعه، وإذا لم يوجده الله - تعالى - امتنع العبد مخلوق لله وإذا دلَّت الآية على كون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك، وامتنع أن يقال : فعل العبد مخلوق لله تعالى ثبت أن قوله تعالى :﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ [ الأنعام : ١٠٤ ] يوجب تخصيص ذلك العموم.
والجواب : أن الدليل العَقْلِيَّ قد ساعد على صِحَّةِ ظاهرة هذه الآية الكريمة؛ لأن الفعل مَوْقُوفٌ على الداعي، وخالق الداعي هو الله - تعالى - ومجموع القُدْرَةِ مع الداعي يوجب الفعل، وذلك [ يقتضي ] كونه - تعالى - خَالِقَ كل شيء فاعبدوه، ويَدُلُّ على أن كونه خَالِقاً لكل الأشْيَاءِ سبب للأمر [ بالعبادة ] لأنه رتب الأمر بالعبادة على كَوْنِهِ خالقاً للأشياء بفاء التعقيب، وترتيب الحكم مُشْعِرٌ بالسّبَبِيَّةِ.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة في الصفات وخلق القرآن


احْتَجَّ كثيرٌ من المعتزلة بقوله تبارك وتعالى :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ على نفي الصفات، وعلى كونه القرآن مَخْلُوقاً، أما نَفْيُ الصِّفَات، فإنهم قالوا : لو كان - تعالى - عالماً بالعلم قادراً بالقُدْرَةِ لكان ذلك العِلْمُ والقدرة إما أن يقال : إنهما قَدِيمانِ أو محدثان، والأوَّلُ باطل؛ لأن عموم قوله :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ يقتضي كونه - تبارك وتعالى - خالقاً لِكُلِّ الأشياء وخَصَّصْنَا هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضَرُورة أنه يِمْتَنِعُ أن يكون خالقاً لنفسه، فيبقى على عمومه فيما عَدَاهُ.
وإن قلنا بحدوث عِلْمِ الله تعالى وقدرته، فهو بَاطِلٌ بالإجماع، ولأنه يلزم افْتِقَارُ إيجاد ذلك العمل والقُدْرَةِ إلى سَبْقِ عِلْمِ آخر، لأن القرآن شيء وكل شيء فهو مَخْلُوقٌ لله - تبارك وتعالى - بِحُكْمِ هذا العموم وأقْصى ما في الباب أن هذا العُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ في ذات الله - تبارك وتعالى - إلاَّ أن العام بالدَّلائلِ الدَّالَّةِ على أن كلام الله تبارك وتعالى - قَدِيمٌ.


الصفحة التالية
Icon