﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ﴾ [ الأعراف : ١٩٢ ] وهو تكلف بعيد.
وقوله « فِي الغيِّ » قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل، أو ب « إخوانهم » أو بمحذوف على أنه حال إمَّا من « إخوانهم » وإمَّا من واو « يَمُدُّونهُم » وإمَّا من مفعوله.
فصل
قال اللَّيث : الإقصارُ : الكَفُّ عن الشَّيء، وأقْصَرَ فلانٌ عن الشَّيءِ يُقْصِرُ إقصاراً إذا كفَّ عنه وانتهى.
قال ابنُ عبَّاسٍ : ثُم لا يُقْصِرُون عن الضَّلالِ والإضلال، أمَّا الغاوي ففي الضَّلال، وأمَّا المغوي ففي الإضلال. قال الكلبيُّ لكل كافر أخٌ من الشياطين يَمُدُّونهُمْ أي : يُطيلُون لهم في الإغواء حتَّى يستمرُّوا عليه.
وقيل : يزيدونهم في الضَّلالة.
قوله ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ ﴾ يعني إذا لم تأتِ المشركين بآيةٍ ﴿ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها ﴾ أي : هلاَّ افتعلْتَهَا، وأنشأتها من قبل نفسك، والاجتباء : افتعال من : جباهُ يَجْبيه، أي : يجمعه مختاراً له، ولهذا يقال : أجْتَبَيْتُ الشيء، أي : اخترته.
وقال الزمخشريُّ : اجْتَبَى الشيء، بمعنى جباهُ لنفسه، أي جمعه، كقولك : اجتمعه أو جُبِيَ إليه، فاجتباه : أي أخذهُ، كقولك : جليْتُ له العروس فاجتلاها، والمعنى هلاَّ اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك.
قال الفراء : تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه ﴾ [ الفرقان : ٤ ] أو يقال : هلاَّ اقترحتها على إلهك إن كنت صادقاً، وأنَّ الله تعالى يَقْبَلُ دعاءك ويجيبُ التمسك وذلك أنَّهم كانوا يطلبون منه آيات معينة على سبيل التعنت كقوله :﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ]. وعند هذا أمر رسوله أن يجيبهم بالجواب الشافي، فقال :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي ﴾ أي ليس عليّ أن أقترح على ربي وإنما أنا أنتظر الوحي.
ثُمَّ بيَّن أنَّ عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدُ في الغرض؛ لأنَّ ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة قاهرة، فهي كافية في تصحيح النبوة، فطلب الزيادة تعنت؛ فلا جرم قال : قل هذا يعني : القرآن بَصائرُ حجج، وبيان، وبرهان لذوي العقول في دلائل التَّوحيد، والنبوة، والمعاد، والبصائرُ : جمع بصيرة، أوصلها ظهور الشَّيء واستحكامه حتى يبصر الإنسان فيهتدي به، أي : هذه دلائلُ تقودكم إلى الحقِّ؛ فأطلق على القرآن لفظ البصيرةِ تسمية للسبب باسم المسبب.
قال بُو حيَّان : وأطلق على القرآن بصائر إمَّا مبالغةً؛ وإمَّا لأنَّهُ سبب البصائر، وإمَّا على حذف مضاف أي : ذو بصائر ثم قال : وهُدىً والفرقُ بين هذه المرتبة وما قبلها إنَّ النَّاس في معارف التوحيد، والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام :
إحدها : الذين بلغوا في هذه المعارف بحيث صاروا كالمشاهدين لها، وهم أصحاب عين اليقين.
والثاني : الذين بلغُوا إلى ذلك الحد إلاَّ أنهم وصلوا إلى درجات المستدلِّين، وهم أصحاب علم اليقين فالقرآنُ في حقِّ الأولين وهم السَّابقُون بصائر، وفي حق القسم الثاني هُدىً، وفي حق عامَّة المؤمنين رحمة، ولمَّا كانت الرفق الثلاث من المؤمنين قال :« قَوْمٍ يُؤمنُونَ ».