قوله :﴿ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ ذكر الصَّلاة؛ لأنَّها رأسُ الطاعات الظاهرة ثم بذل المار في مرضاة اللَّهِ؛ فيدخل فيه الزكاة والصدقات، والنَّفقة في الجهادِ، وعلى المساجد والقناطر.
قال المعتزلة : أجمعت الأمةُ على أنَّه لا يجوزُ الإنفاق من الحرامِ، فدلَّ على أنَّ الحرامَ لا يكن رزقاً وقد تقدم البحثُ فيه. وقوله :« الَّذين يُقيمُونَ » فيجوزُ في هذ الموصول أن يكون مرفوعاً على النَّعْتِ للموصول أو على البدلِ، أو على البيان له، وأن يكون منصوباً على القطع المُشعِر بالمدْح.
قوله :﴿ أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً ﴾ يجوز في حقّاً أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي : هم المؤمنون إيماناً حقاً، ويجوز أن يكون مؤكداً لمضمون الجملة، كقولك : هو عبد الله حقاً، والعاملُ فيه على كلا القولين مُقدَّرٌ، أي : أحقُّه حقاً، ويجوز وهو ضعيفٌ جدّاً أن يكون مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعةِ بعده وهي : لَهُم درجاتٌ ويكون الكلامُ قد تمَّ عند قوله : هُمُ المُؤمِنُونَ ثم ابتدأ ب ﴿ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ ﴾ وهذا إنَّما يجوزُ على رأي ضعيف، أعني تقديم المصدر المؤكِّد لمضمون جملة عليها.
قوله : عِندَ ربِّهِمْ يجوزُ أن يكون متعلقاً ب « دَرَجَاتٌ »، لأنَّها بمعنى أجُورٌ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّها صفةٌ ل « درجاتٌ » أي : اسْتقرَّت عند ربهم، وأن يتعلَّق بما تعلَّق به لَهُمْ من الاستقرار.

فصل


قوله :﴿ أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً ﴾ أي : يقيناً، قال ابنُ عبَّاسٍ : برءوا من الكفر، قال مقاتل : حَقّاً لا شكَّ في إيمانهم، وفيه دليلٌ على أنَّه ليس لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمناً حقّاً؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما وصف بذلك أقواماً مخصوصين على أوصاف مخصوصة، وكلُّ أحدٍ لا يتحقَّقُ وجود ذلك الأوصاف فيه وقال ابنُ أبي نجيح : سألَ رجلٌ الحسن فقال : أمؤمن أنت؟ فقال : إن كنت تسألني عن الإيمان باللَّه وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنَّة، والنَّار، والبعث، والحساب، فأنا بها مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله :﴿ إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٢ ] الآية، فلا أدري أمنهم أنا أم لا؟. وقال علقمةُ : كنا في سفر فلقينا قوماً فقلنا : من القومُ؟ فقالوا : نحنُ المؤمنون حقاً، فلم ندر ما نجيبهم حتَّى لقينا عبد الله بن مسعود، فأخبرناه بما قالوا : قال : فما رَدَدْتُمْ عليهم؟ قلنا : لم نردّ عليهم شيئاً، قال : أفلا قلتم أمِنْ أهلِ الجنَّة أنتم؟ إنَّ المؤمنين أهلُ الجنَّةِ.
وقال سفيانُ الثوريُّ : من زعم أنَّهُ مؤمن حقاً عند الله، ثم لم يشهدْ أنَّه في الجنَّة فقد آمن بنصف الآية دون النِّصف.
ثم قال تعالى :﴿ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ قال عطاءٌ : بمعنى : درجات الجنَّةِ ويرتقونها بأعمالهم، قال الربيعُ بنُ أنس : سبعون درجة بين كلِّ درجتين حر الفرس المضر سبعين سنة « ومَغْفرةٌ » لذنوبهم وَرِزقٌ كريمٌ حسن.
قال الواحديُّ : قال أهل اللُّغةِ : الكريمُ : اسم جامع لكل ما يحمدُ ويستحسنُ، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه فاللَّهُ تعالى موصوفٌ بأنه كريم، والقرآنُ موصوف بأنَّه كريم، قال تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ [ الواقعة : ٧٧ ] وقال تعالى :﴿ مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ٧ ] ﴿ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ﴾ [ النساء : ٣١ ] وقال :﴿ وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] فالرزق الكريم هو الشريفُ الفاضل الحسن.


الصفحة التالية
Icon