قوله :﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ﴾ الآية.
في « إذْ » خمسة أوجه :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ ب « اذْكر » مضمراً، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً، أي : إنَّهُ منقطعٌ عمَّا قبله.
والثاني : أنَّهُ منصوب ب « يُحِقَّ » أي : يحقُّ الحقَّ وقت استغاثتكم، وهو قول ابن جرير وهو غلط؛ لأن « لِيُحِقَّ »، مستقبل؛ لأنَّه منصوبٌ بإضمار « أنْ » و « إذْ » ظرف لما مضى، فكيف يعمل المستقبل في الماضي؟.
الثالث : أنَّهُ بدلٌ من « إذ » الأولى، قاله الزمخشري، وابن عطيَّة، وأبُو البقاءِ وكانوا قد قدَّمُوا أنَّ العامل في « إذْ » الأولى « اذكر » مقدراً.
الرابع : أنَّهُ منصوب ب « يَعِدُكُمُ » قاله الحوفيُّ، وقبله الطبري.
الخامس : أنَّهُ منصوب بقوله « تَوَدُّونَ » قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصْلِ.
واستاث : يتعدَّى بنفسه، وبالباءِ، ولم يجىء في القرآن إلاَّ متعدِّياً بنفسه، حتَّى نقم ابن مالك على النحويين قولهم : المستغاث له، أو به، والمستغاث من أجله، وقد أنشدوا على تعدِّيه بالحرف قول الشاعر :[ البسيط ]
٢٦٧٤ - حَتَّى اسْتَغَاثَتْ بماءٍ لا رشاءَ لَهُ | من الأبَاطِحِ في حَافَاتِهِ البُرَكُ |
مُكَلَّلٌ بأصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ | ريحٌ خريقٌ لضاحِي مائِهِ حُبُكُ |
كَمَا استغاثَ بِسَيءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ | خَافَ العُيُونَ ولمْ يُنظَرْ بِه الحِشَكُ |
فصل
الاستغاثةُ : طلبُ الغَوْث، وهو النَّصرُ والعونُ، وقيل : الاستغاثةُ : سدُّ الخَلَّةِ وقتَ الحاجةِ، وقيل : هي الاستجارةُ، ويقالُ : غَوْثٌ، وغواثٌ، والغَيْث من المطرِ، والغَوْثُ من النُّصرةِ، فعلى هذا يكون « اسْتَغَاثَ » مشتركاً بينهما، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل، فيقال : اسْتَغثْتُهُ فأغاثني من الغَوث، وغَاثَني من الغَيْث، وفي هذه الاستغاثَةُ قولان :
الأول : أنَّ هذه الاستغاثة كانت من الرَّسُولِ - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
قال ابن عبَّاسٍ : حدّثني عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - قال :« لمَّا كان يوم بدرٍ نظر رسولُ الله ﷺ إلى المشركين، وهم ألف وإلى أصحابه، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، واستقبل القبلة، ومد يده، فجعل يهتف بربّه :» اللَّهُمَّ أنْجِزْ لِي ما وعدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهلِكْ هذه العصابة لا تُعْبَدُ في الأرضِ « فلم يزل كذلك حتّضى سقط رداؤهُ عن منكبه، وردَّه أبو بكر ثمَّ التزمه، ثم قال : كفاكَ يا نبيَّ اللَّهِ مناشَدَتكَ ربَّك، فإنَّه سَيُنْجِزُ لك ما وعدكَ » ؛ فأنزل اللَّهُ الآية، ولما اصطفّ القومُ قال أبُو جهلٍ : اللَّهُمَّ أولانا بالحقَّ فانْصُرهُ.
الثاني : أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين؛ لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم، بل خوفهم كان أشَدّ من خوف الرسول، ويمكن الجمع بينهما بأنَّ النبي ﷺ دعا وتضرع، والمؤمنون كانوا يُؤمِّنونَ على دعائه.