قوله :« وما جَعَلَهُ » الهاء تعود على الإمداد، أي : وما جعل اللَّهُ الإمدادَ، ثُمَّ هذا الإمدادُ يحتمل أن يكون المنسبكَ من قوله :« إنِّي مُمِدُّك » إذ المعنى : فاستجاب بإمدادكم، ويحتمل أن يكون مدلولاً عليه بقوله :« مُمِدُّكم » كما دلَّ عليه فعلُهُ في قوله :﴿ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ﴾ [ المائدة : ٨ ] وهذا الثَّاني أولَى؛ لأنَّه مُتأتٍّ على قراءة الفتح والكسر في :« إني » بخلاف الأول فإنَّهُ لا يتّجه عودُهُ على الإمداد على قراءة الكسر إلاَّ بتأويلٍ ذكره الزمخشريُّ : وهو أنَّه مفعول القول المضمر، فهو في معنى القول.
وقيل يعودُ على المدد قاله الزَّجَّاجُ، وهذا أولى؛ لأنَّ بالإمداد بالملائكةِ كانت البُشْرَى.
وقال الفرَّاءُ : إنَّهُ يعودُ على الإرداف المدلول عليه ب « مُرْدفين ».
وقيل : يعودُ على :« الألف ».
وقيل : على المدلول عليه ب « يَعِدُكم ».
وقيل : على جبريل، أو على الاستجابة لأنَّها مؤنثٌ مجازي، أو على الإخبار بالإمداد، وهي كلُّهَا محتملة وأرجحها الأوَّلُ، والجعل هنا تصييرُ.

فصل في قتال الملائكة يوم بدر.


اختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا يوم بدر؟ فقال قومٌ : نزل جبريلُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرِّجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض، وقد أرخوا أطرافهم بين أكتافهم وقاتلوا، وقيل : قاتلُوا يوم بدر ولم يقاتلُوا يوم الأحزاب، ويوم حنين.
رُوي أنَّ أبّا جهل قال لابنِ مسعُودٍ : مِنْ أينَ كان الصَّوت الذي كُنَّا نسمعُ ولا نرى شخصاً؟.
قال : من الملائكة.
فقال أبُو جهْلٍ : هُم غلبونَا لا أنتم.
« وروي أنَّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذْ سمع صوت ضربة السَّوْط فوقه، فنظر إلى المشرك وقد خرَّ مستلقياً وشُق وجهه، فحدَّث الأنصاريُّ رسول الله ﷺ فقال :» صَدقتَ ذاكَ من مددِ السَّماءِ «
وقال آخرون لم يُقاتلُوا وإنَّما كانوا يكثرون السَّواد ويثبتون المؤمنين، وإلاَّ فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا كلهم فإنَّ جبريل - عليه السلام - أهلكَ بريشةٍ من جناحه مدائن قوم لوطٍ، وأهلك بلاد ثمود، وقوم صالح بصحية واحدة.
وقد تقدَّم الكلامُ في كيفية هذا الإمداد في سورة آل عمران، ويدلُّ على أنَّ الملائكة لم يقاتلوا قوله ﴿ وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى ﴾ إذا جعلنا الضمير عائداً على الإرداف.
قال الزَّجَّاجُ :»
وما جعل الله المردفينَ إلا بشرى « وهذا أولى؛ لأنَّ الإمدادَ بالملائكة حصل بالبشرى.
﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله ﴾ والمقصود التَّنبيه على أنَّ الملائكةَ وإن كانُوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين، إلاَّ أنَّ الواجب على المؤمنِ أنْ لا يعتمد على ذلك، بل يجبُ أن يكون اعتماده على اللَّهِ ونصره وكفايته؛ لأنَّ الله هو العزيزُ الغالب الحكيم فيما ينزل من النُّصْرَةِ فيضعها في موضعها.


الصفحة التالية
Icon