وقال المبرِّدُ، والفرَّاءُ، والزَّجَّاجُ : في قراءة العامَّة « لا تُصِيبنَّ » الكلام قد تمَّ عند قوله :« فِتْنَةً » وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمة خاصةً عن التعرُّض للظُّلم فتصيبهم الفتنةُ خاصة، والمرادُ هنا : لا يتعرَّض الظَّالم للفتنة فتقع إصابتُها له خاصة.
قال الزمخشريُّ في تقدير هذا الوجه :« وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ؛ فكأنه قيل : واحذروا ذنباً أو عقاباً.
ثم قيل : لا تتعرَّضُوا للظلم فيصيب العقابُ أو أثر الذَّنب من ظلم منكم خاصة ».
وقال عليُّ بن سليمان : هو نَهْيٌ على معنى الدُّعاءِ، وإنَّما جعله نهياً بمعنى الدُّعاء لأنَّ دخول النون في النفي ب « لا » عنده لا يجوز، فيصير المعنى : لا أصابت الفتنة الظالمين خاصة، واستلزمت الدُّعاء على غير الظَّالمينَ، فصار التقدير : لا أصابت ظالماً ولا غير ظالم فكأنَّه قيل : واتقوا فتنةً لا أوقعها اللَّهُ بأحدٍ.
وقد تحصَّلت في تخريج هذه الكلمة أقوال : النَّهْي بتقديريه، والدُّعاء بتقديريه، والجواب للأمر بتقديريه وكونها صفةً بتقدير القول.
قوله :« مِنكُمْ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرها : أنَّها للبيان مطلقاً، والثاني : أنَّها حالٌ، فيتعلَّقُ بمحذوف.
وجعلها الزمخشريُّ : للتبعيض على تقدير، وللبيان على تقدير آخر، فقال « فإن قلت : فما معنى » مِنْ « في قوله :﴿ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ ﴾ ؟ قلت : التبعيضُ على الوجه الأوَّلِ، والبيان على الثاني؛ لأنَّ المعنى : لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم منكم أقبحْ من سائر النَّاسِ » يعني بالأولِ كونه جواباً للأمر، وبالثاني كونه نهياً بعد أمرٍ، وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهين دون الآخر، وكذا الثاني : نظرٌ، إذ المعنى يصح بأحد التقديرين مع التَّبعيض والبيان.
قوله :« خَاصَّةً » فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنها حالٌ من الفاعل المستكنِّ في قوله :« لا تُصيبَنَّ » وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره : إصابةً خاصة.
الثاني : أنَّها حالٌ من المفعولِ وهو الموصولُ، تقديره : لا تصيبنَّ الظَّالمين خاصة، بل تعمُّهم، وتعمُّ غيرهم.
الثالث : أنها حالٌ من فاعل « ظَلَمُوا » قاله ابن عطية. قال أبو حيان :« ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ ».
قال شهابُ الدِّين :« ولا أدري ما عدمُ تعقُّله؟ فإنَّ المعنى : واتقُوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا، ولا يظلم غيرهم، بمعنى : أنَّهم اختصوا بالظُّلْمِ، ولم يشاركهم فيه غيرهم، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها لهؤلاء، بل تصبهم، وتُصيبُ مَنْ لَمْ يظلم ألبتَّة، وهذا معنى واضح ».
فإن قيل : إنَّه تعالى خوَّفهم بعذابٍ لو نزل عمَّ المذنب، وغيره، وكيف يليقُ بالرحيم الحليمِ أن يوصل العذاب إلى من لم يذنب؟
فالجوابُ : أنَّهُ تعالى قد ينزل الموت، والفقر، والعمى، والزمانة بعبده ابتداء، إمَّا لأنَّهُ يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكيَّةِ، أو لأنَّه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاة على اختلاف المذهبين.