وخرَّجها أبو الفتحِ على أنَّ « المُكَاء » و « التصدية » اسما جنس، يعني : أنَّهُمَا مصدران.
قال : واسم الجنْسٍ تعريفُه وتنكيرُهُ متقاربانِ، فلمَ يقالُ بأيِّهمَا جعل اسماً، والآخر خبراً؟ وهذا يقرُب من المعرَّف ب « أل » الجنسيَّة، حيث وُصِفَ بالجملة، كما يُوصَف به النكرة، كقوله تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار ﴾ [ يس : ٣٧ ] ؛ وقول الآخر :[ الكامل ]
٢٧٠٤ - ولقد أمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي | فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ « لا يَعْنِينِي |
وقد جمع الشَّاعر بين اللغتين، فقال :[ الوافر ]
٢٧٠٥ - بَكَتْ عَيْنِي وحُقَّ لها بُكَاهَا | ومَا يُغْنِي البُكَاءُ ولا العَوِيلُ |
فصل
قال ابن عبَّاسٍ » كانت قريش يطوفون بالبيت عُراة، يُصفرون ويصفِّقُون «.
وقال مجاهدٌ :» كانوا يعارضون النبي ﷺ في الطّواف ويتسهزئون به ويصفِّرون، ويصفِّقُونَ، ويخلطون عليه طوافه وصلاته «.
وقال مقاتلٌ :» كان النبي ﷺ إذَا صلَّى في المسجد الحرام، قام رجلان عن يمينه، ورجلان عن يساره يصفقون ليخلطوا على النبيِّ ﷺ صلاته، وهم من بني عبد الدَّارِ «.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ :» التصديةُ : صدهم المؤمنين عن المسجد الحرامِ، وعلى هذا ف « التَّصددةُ » بدالين، كما يقال : تظننت من الظن «.
فعلى قول ابن عباسٍ كان المكاءُ والتصديةُ نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقالت : كان إيذاءاً للنبي ﷺ. والأول أقرب، لقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾.
فإن قيل :» المُكَاءُ « و » التَّصديةُ « ليسا من جنس الصَّلاة، فكيف يجوزُ استثناؤهما من الصَّلاة؟ فالجوابُ : من وجوه، أحدها : أنهم كانوا يعتقدون أنَّ المكاء والتصدية من جنس الصَّلاة، فحسن الاستثناء على حسب معقتدهم.
قال ابنُ الأنباري :» إنَّما سمَّاه صلاة؛ لأنَّهُمْ أمروا بالصَّلاةِ في المسجدِ؛ فجعلوا ذلك صلاتهم «.
وثانيها : أنَّ هذا كقولك : زرتُ الأمير؛ فجعل جفائي صلتي، أي : أقام الجفاء مقام الصلة، كذا ههنا.
وثالثها : الغرضُ منه أن من كان المكاء والتَّصدية صلاته فلا صلاة له، كقول العربِ : ما لفلان عيب إلاَّ السخاء، أي : مَنْ كان السخاء عيبه فلا عَيْبَ فيه.
ثم قال تعالى ﴿ فَذُوقُواْ العذاب ﴾ أي : عذاب السيف يوم بدر، وقيل : يقال لهم في الآخرة ﴿ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾.