« ولوْ توَاعَدتُّمْ » أنتم، وأهل مكَّة « لاخْتَلَفْتُمْ » لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم، وكثرتهم، أول أن المسلمين خرجوا ليأخُذُوا العير، وخرج الكفَّارُ ليمنعوها، فالتقوا على غير ميعاد، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، لنصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه ﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾.
وذلك أن عسكر الرسول ﷺ في أول الأمر، كانوا في غاية الضَّعْفِ والخوف بسبب القلَّةِ، وعدم الأهبة، ونزلُوا بعيداً عن الماءِ، وكانت الأرض الَّتي نزلُوا فيها رَمْلاً تغوصُ فيه أرجُلُهُمْ، والكُفَّارُ كانوا في غاية القُوَّةِ، لكثرتهم في العدد والعدة، وكانوا قريباً من الماء وكانت الأرض التي نزلوا فيها صالحة للمضي، والعير كانوا خلف ظهورهم وكانوا يتوقَّعُون مجيء المدد ساعةً فساعةً، ثُمَّ إنَّه تعالى قلب القصَّة، وجعل الغلبة للمسلمين، والدَّمار على الكافرين، فصار ذلك من أعظم المعجزات، وأقوى البيِّنات على صدق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر.
وقوله :﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ إشارة إلى هذا المعنى، وهو أنَّ الذين هلكوا إنَّما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة، والذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة، والمراد من البيِّنةِ : المعجزة، ثم قال :﴿ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي : يسمع دعاءكم، ويعلم حاجتكم وضعفكم ويصلح مهمكم.
النَّاصب ل « إذْ » يجوزُ أن يكون مضمراً، أي : اذكُرْ، ويجوزُ أن يكون « عليم »، وفيه بعدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقتِ، ويجوزُ أن تكون « إذْ » هذه بدلاً من « إذْ » قبلها، والإراءة هنا حُلُمية.
واختلف فيها النُّحاةُ : هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصريَّةِ، أو لاثنين، كالظَّنِّيَة؟.
فالجمهورْ على الأوَّلِ. فإذا دخلت همزةُ النَّقْلِ أكسبتْهَا ثانياً، أو ثالثاً على حسب القولين فعلى الأوَّلِ تكون الكافُ مفعولاً أول، و « هُمْ » مفعولٌ ثان، و « قَلِيلاً » حال، وعلى الثَّاني يكون « قَلِيلاً » نصباً على المفعول الثالث، وهذا يَبْطُلُ بجواز حذف الثالث في هذا الباب اقتصاراً، أي : من غير دليل تقول : أراني الله زيداً في مَنَامِي، ورأيتك في النوم، ولو كانت تتعدَّى لثلاثةٍ، لما حُذفَ اقتصاراً؛ لأنه خبر في الأصل.

فصل


المعنى : إذْ يريك اللَّهُ يا محمد المشركين في منامك، أي : نَوْمك.
قال مجاهد : أرَى الله النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - كفار قريش في منامه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فقالوا : رُؤيَا النَّبي حق، القومُ قليل، فصار ذلك سبباً لقوَّةِ قلوبهم.
فإن قيل : رؤية الكثيرة قليلاً غلط، فكيف يجوزُ من اللَّه تعالى أن يفعل ذلك؟.
فالجوابُ : أنَّ الله تعالى يفعلُ ما يشاءُ، ويحكم ما يريدُ، ولعلَّه تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون.


الصفحة التالية
Icon