القسم الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا وبقوا في مكة، وهم المراد بقوله ﴿ والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ ﴾ فقال تعالى :﴿ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ ﴾، فالولاية المنفية في هذه الصُّورة، هي الولاية المثبتة في القسم المتقدم، فما قيل هناك قيل هنا.
واحتج الذَّاهبون إلى أنَّ المراد من هذه الولاية الإرث، بأن قالوا : لا يجوزُ أن يكُون المراد منها ولاية النصرة والدلي عليه أنَّه تعالى عطف عليه قوله :﴿ وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر ﴾ وذلك عبارة عن الموالاة في الدِّين، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمراً مغايراً لمعنى النصرة، وهذا استدلال ضعيف لأنا إذَا حملنا تلك الولاية على التَّعظيم والإكرام، فهو أمرٌ مغاير للنصرة، لأنَّ الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم، وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم، فسقط هذا الاستدلال.
قوله :« مِن ولايتهم » قرأ حمزة هنا، وفي الكهف « الولاية لِلَّه » هو، والكسائي بكسر الواو، والباقون بفتحها. فقيل : لغتان. وقيل : بالفتحِ من « المَوْلَى » يقال : مَوْلَى بيِّن الولاية، وبالكسر من ولاية السلطان. قاله أبُو عبيد. وقيل : بالفتح من النُّصْرَة والنَّسب، وبالكسر من الإمارة. قاله الزَّجَّاجُ قال :« ويجوز الكسرُ؛ لأنَّ في تولِّي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ كالخياطية والقصارة »، وقد خطَّأ الأصمعيُّ قراءة الكسرِ، وهو المُخْطِىءُ، لتواترها.
وقال أبُو عبيدٍ :« والذي عندنا الأخْذُ بالفتح في هذين الحرفين؛ لأنَّ معناهما من الموالاة في الدِّين ».
وقال الفارسي :« الفتحُ أجودُ؛ لأنَّها في الدِّينِ »، وعكس الفرَّاءُ هذا، فقال « يُريدُ من مواريثهم، فكسر الواو أحبُّ إليَّ من فتحها؛ لأنها إنَّما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائيُّ يذهبُ بفتحها إلى النصرة، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنى جَمِيعاً ».
قوله :« حتَّى يُهاجِرُوا » يُوهِمُ أنَّهم لمَّا لمْ يهاجروا مع رسُولِ الله سقطت ولايتهم مطلقاً فأزال الله هذا الوهم بقوله :﴿ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ ﴾ أي : أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية.
قوله تعالى :﴿ وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر ﴾.
لمَّا بيَّن قطع الولاية بين تلك الطَّائفة من المؤمنين، بيَّن أنَّ المراد منه ليس هو المقاطعة التَّامة كما في حقِّ الكُفَّارِ، بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا « لو استنصروكم فانصروهم » ولا تخذلوهم.
قوله :« فَعَليْكُم النَّصْرُ » مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل عند الأخفش، ولفظةُ « عَلَى » تُشعرُ بالوُجُوبِ، وكذلك قدَّره الزمخشريُّ، وشَبَّهه بقوله :[ الطويل ]


الصفحة التالية
Icon