وقال ابنُ عبَّاسٍ « إنَّ عليّاً أغلظ الكلام للعبَّاس حين أسر يوم بدر، فقال العبَّاسُ : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام، والهجرة، والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله هذه الآية. وأخبر أنَّ عمارتهم المسجد الحرام، وقيامهم على السقاية، لا ينفعهم مع الشرك بالله، وأنَّ الإيمان بالله، والجهاد مع نبيه خيرٌ مِمَّا هُمْ عليه ».
وقال الحسنُ والشعبيُّ ومحمدُ بن كعبٍ القرظيُّ « نزلت في عليٍّ بن أبي طالب، والعباس، وطلحة بن أبي شيبة، افتخروا، فقال طلحةُ : أنا صاحبُ البيتِ، بيدي مفتاحه، ولو أردتُ بتُّ فيه، وقال العبَّاس : أنا صاحبُ السِّقاية، والقائم عليها، وقال علي : لا أدري ما تقولون، لقد صلَّيْتُ إلى القبلة ستة أشهر قبل النَّاس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله هذه الآية ».
وقيل : إنَّ عليّاً قال للعباس بعد إسلامه : يا عم ألا تهاجرون، ألا تحلقُون برسول الله ﷺ ؟ فقال : ألستُ في أفضل من الهجرةِ؟ أسقي الحاج، وأعمر البيت الحرام؟ فنزلت هذه الآية، فقال العباس : ما أراني إلاَّ تارك سقايتنا، فقال ﷺ :« أقيمُوا على سقَايتكُم فإنَّ لَكُم فيهَا خَيْراً ».
وقيل : إنَّ المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج، وعمار المسجد الحرام، فنحن أفضل أم محمد ﷺ وأصحابه؟ فقالت اليهودُ لهم : أنتُمْ أفْضَلُ.
قال ابن الخطيب :« هذه المفاضلة تحتملُ أن تكون جرت بين المسلمين، ويحتمل أن تكون جرت بين المسلمين والكفار، أمَّا كونها جرت بين المسلمين، فلقوله تعالى بعد ذلك ﴿ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله ﴾، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح درجة أيضاً عند الله، وذلك لا يليق إلاَّ بالمؤمنين، وأمَّا احتمال كونها جرت بين المؤمنين والكفار، فلقوله تعالى ﴿ كَمَنْ آمَنَ بالله ﴾ وهذا يدل على أنَّ هذه المفاضلة وقعت بين من لم يُؤمن بالله وبين من آمن بالله ».
وهذا هو الأقرب؛ لأن المفسرين نقلوا في تفسير قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله ﴾ [ التوبة : ١٨ ] أنَّ العباس احتجَّ على فضائل نفسه، بأنَّهُ عمر المسجد الحرام، وسقي الحاج، فأجاب الله عنه بوجهين :
الأول : ما تقدَّم في الآية الأولى : أنَّ عمارة المسجد الحرام توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن، أمَّا إذا صدرت عن الكافر، فلا فائدة فيها ألبتة.
والثاني : هذه الآية، وهو أن يقال : سَلَّمنا أنَّ عمارة المسجد الحرام، وسقي الحاج، يوجب نوعاً من الفضيلة، إلاَّ أنها بالنسبة إلى الإيمان والجهاد كمقابلة الشيءِ الشَّريف الرفيع جدّاً بالشَّيء الحقير التافه جدّاً، وإنَّه باطل، وبهذا الطريق حصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها.


الصفحة التالية
Icon