الثالث : لو كان حصولُ الهداية بفعل العبد فبما لم يتميز عنده اعتقاد الحق من اعتقاد الباطل؛ امتنع أن يخصّ أحدُ الاعتقادين بالتَّحْصيلِ، لكن علمه بأنَّ هذا الاعتقاد هو الحق، وأنَّ الآخر هو الباطل، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه، فلزمَ أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد هو الأول، وأنَّ الآخر مشورطاً بكون ذلك الاعتقاد حاصلاً وذلك يقتضي كون الشَّيء مَشْرُوطاً بنفسه، وهو محالٌ، فامتنع أن يكون حصولُ الهداية بتحصيل العبد، وأمَّا إبطال تأويلاتهم، فقد تقدَّم مراراً.
قله تُضِلُّ بِهَا يجوزُ فيها وجهان : أحدهما : أن تكون مستأنفةً فلا مَحَلَّ لها، والثاني أن تكون حالاً من فِتْنَتُكَ أي : حال كونها مُضلاًّ بها، ويجوزُ أن تكون حالاً من الكاف؛ لأنَّهَا مرفوعةٌ تقديراً بالفاعليَّةِ، ومنعه أبُو البقاءِ قال :« لعدم العامل فيها » وقد قدم البحث معه مراراً.
قوله :« أنْتَ وَلينَا » يفيد الحَصْرَ، أي : لا ولي لنا، ولا ناصر، ولا هادي إلاَّ أنت، وهذا من تمام ما تقدَّم من قوله :﴿ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ ﴾.
وقوله :﴿ فاغفر لَنَا وارحمنا ﴾ المُرادُ منه : أنَّ إقدامه على قوله :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ﴾ جراءة عظيمة، فطلب من الله غفرانها والتَّجاوز عنها.
وقوله :﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين ﴾ أي : أنَّ كلَّ مَنْ سواك فإنَّمَا يتجاوزُ عن الذَّنب إمَّا طلباً للثناء الجميل، أو للثَّواب الجزيل، أو دفعاً للرقة الخسيسة عن القلب، أمَّا أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب غرض وعوض، بل لمحض الفضل والكرم.
قوله :﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين ﴾ الكتابة تذكر بمعنى الإيجاب. ولمَّا قرَّرَ أنَّه لا ولي له إلاَّ الله، والمتوقع من الولي والنَّاصر أمران : أحدهما : دفع الضَّرر والثاني : تحصيل النَّفع، ودفع الضَّرر مقدم على تحصيل النَّفع؛ فلهذا السَّبَبِ بدأ بطلب دفعِ الضَّررِ وهو قوله :﴿ فاغفر لَنَا ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ] ثُمَّ أتبعه بتحصيل النَّفْعِ، وهو قوله ﴿ واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً ﴾ والمُرادُ بالحسنة في الدُّنْيَا، النَّعمةُ والعافيةُ، والحسنةُ في الآخرة : المغفرة والجنة.
قوله :﴿ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ ﴾ العامَّةُ على ضم الهاءِ، من هاد يَهُود بمعنى : مال؛ قال :[ السريع ]
٢٥٩٤ - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وجَارَاتُهَا | أنِّي مِنَ اللَّهِ لَهَا هَائِدُ |
٢٥٩٥ - إنِّي امْرؤ مِمَّا جَنَيْتُ هَائِدُ... ومن كلام بعضهم :{ المجتث ]
٢٥٩٦ - يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْهُدْ | واسْجُدَ كأنَّكَ هُدْهُدْ |