والمراد من « النور » قال الكلبيُّ : هو القرآن، أي : يردُّوا القرآن بألسنتهم تكذيباً. وقيل : النور : الدَّلائل الدَّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه. وسمى الدلائل نوراً؛ لأنَّ النور يهتدي به إلى الصَّواب.
قوله :﴿ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ﴾ « أن يتمّ » مفعول به، وإنَّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب؛ لأنَّهُ في معنى النفي، فقال الأخفشُ الصغيرُ « معنى يأبَى : يمنع » وقال الفرَّاء :« دخلتْ » إلاَّ « لأن في الكلام طرفاً من الجحد » وقال الزمخشريُّ :« أجْرَى » أبَى « مُجْرى » لَمْ يُرِدْ «، ألا ترى كيف قُوبل :﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ ﴾ بقوله :﴿ ويأبى الله ﴾، وأوقع موقع : ولا يريد الله إلا أن يتمَّ نوره؟ ».
والتقدير : لا يريد إلا أن يتمَّ نوره، إلاَّ أنَّ الإبَاءَ يفيد زيادة عدم الإرادة، وهي المنع والامتناع.
والدليل عليه قوله عليه السلام :« وإذا أرادوا ظلمنا أبينا » فامتدح بذلك، ولا يجوز أن يمتدح بأنَّه يكره الظلم؛ لأنَّ ذلك يصح من القوي والضعيف.
وقال الزَّجاج « إنَّ المستثنى منه محذوفٌ، تقديره : ويَأبَى أي : ويكره كلَّ شيء إلاَّ أن يُتمَّ نوره » وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج، ومذهب غيره فجعلهما مذهباً واحداً فقال :« يَأبَى بمعنى : يَكْره، ويكره بمعنى يمنع، فلذلك استثنى، لما فيه من معنى النَّفْي، والتقدير : يأبَى كُلَّ شيء إلاَّ إتمام نوره ». أي : يعلي دينه ويظهر كلمته، ويتم الحق الذي بعث به محمداً ﷺ :﴿ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ﴾.
قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق ﴾. يعني : الذي يأبى إلاَّ إتمام دينه، هو الذي أرسل رسوله محمداً :« بالهُدَى »، أي : القرآن، وقيل : ببيان الفرائض « ودين الحقِّ » وهو الإسلام، « لِيُظهِرَهُ » ليعليه وينصره، ﴿ عَلَى الدين كُلِّهِ ﴾ على سائر الأديان كلها ﴿ وَلَوْ كَرِهَ المشركون ﴾ فإن قيل : ظاهر قوله ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ ﴾ يقتضي كونه غالباً لجميع الأديان، وليس الأمر كذلك، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة.
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال ابن عباسٍ « الهاءُ في » لِيُظهِرَهُ « عائدة إلى الرسول ﷺ أي : ليعلمه شرائع الدِّين كلها، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء ».
وثانيها : قال أبو هريرة والضحاك : هذا وعدٌ من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا يحصلُ عند خروج عيسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ في نزول عيسى قال :« ويهلكُ في زمانِهِ الملل كُلُّهَا إلاَّ الإسلام ».


الصفحة التالية
Icon