فإنَّ السَّنة عند العربِ : عبارة عن اثني عشر شهراً قمرية، ويدُلُّ عليه هذه الآية وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ﴾ [ يونس : ٥ ] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلاً على السنين، وإنَّما يصح ذلك إذا كانت السَّنة معلقة بسير القمر، وقال تعالى ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ] وعند سائر الطوائف : السَّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرَّة، وفي الصيف أخرى، فشقَّ الأمر عليهم بهذا السَّبب.
وأيضاً إذا حضروا الحجَّ حضروا للتجارة، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية، فلذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت معين موافق لمصلحتهم، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم، فهذا النَّسيء وإن كان سبباً لحصولِ المصالحِ الدنيوية، إلاَّ أنَّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى، لمَّا خصَّ الحجَّ بأشهر معلومة على التّعيين، وكان بسبب ذلك النَّسيء يقع في سائر الشُّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه؛ فلهذا المعنى استوجبُوا الذَّمَّ العظيمَ في هذه الآية. والمرادُ بالكتابِ : حكمه وإيجابه. قال ابن عباس « إنه اللَّوحُ الحفوظ » وقيل : القرآن.
فصل
قال القرطبيُّ : قوله تعالى :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشهور ﴾ وهي جمع شهر. فإذا قال الرجل لأخيه : لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً، قالهُ بعض العلماء وقيل : لا يكلمه أبداً. قال ابنُ العربي : وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة « فُعول » في جمع « فَعْل ».
قوله ﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون صفةً ل « اثْنَا عَشَرَ ».
الثاني : أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار.
الثالث : أن تكون مستأنفة. والضمير في « منها » عائدٌ على اثنا عشر شهراً، لأنه أقربُ مذكورٍ، على « الشُّهور » والضمير في « فيهنَّ » عائدٌ على « الاثني عشر » أيضاً. وقال الفرَّاءُ، وقتادةُ : يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ، لوجهين :
أحدهما : أنه أقرب مذكور. والثاني : أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة، والجمعُ الكثيرُ بالعكس، تقول الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويجوزُ العكس.
فصل
أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، وهي : ذُو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وواحد فرد، وهو : رجبٌ، ومعنى الحرم : أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له.
فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السَّببُ في هذا التَّمييز؟
فالجوابُ : هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة.