قوله ﴿ أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا ﴾ أي : بخفض الدنيا ودعتها. وقوله :﴿ إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ ﴾ جناس لفظي ]، وكذا قوله :﴿ اصبروا وَصَابِرُواْ ﴾ [ آل عمران : ٢٠٠ ]، وقوله :﴿ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ﴾ [ هود : ٤٨ ] وقوله :﴿ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ ﴾ [ يوسف : ٨٤ ]، وقوله :﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ ﴾ [ النمل : ٤٤ ]، وقوله :﴿ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ ﴾ [ فصلت : ٥١ ]، وقوله :﴿ على عِلْمٍ عَلَى العالمين ﴾ [ الدخان : ٣٢ ] وقوله ﴿ مَالِكَ الملك ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ].
قوله « مِنَ الآخرة » تظاهرت أقوالُ المعربين، والمفسرين على أنَّ « مِنْ » بمعنى « بدل » كقوله ﴿ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً ﴾ [ الزخرف : ٦٠ ]، أي : بدلكم؛ ومثلة قول الآخر :[ الرجز ]
٢٧٨٣- جَارِيةٌ لَمْ تأكُلِ المُرقَّقَا | ولمْ تَذُقْ مِن البُقُولِ الفُسْتُقَا |
٢٧٨٤- فَليْتَ لَنَا مِنْ ماءِ زَمْزمَ شَرْبَةٌ | مُبرَّدَةً باتَتْ على طَهَيَانِ |
وقال أبُو البقاءِ :« مِنَ الآخرة » في موضع الحال، أي : بدلاً من الآخرة. فقدَّر المتعلَّقَ كوناً خاصاً، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى. ثم قال :« فما متاع الحياة الدنيا » أي : لذاتها. وقوله « فِي الآخرةِ » متعلقٌ بمحذوفٍ من حيثُ المعنى، تقديره : فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة ف « محسوباً » حالٌ مِنْ « متاعُ ».
وقال الحوفي : إنَّه متعلق ب « قَلِيلٌ »، وهو خبر المبتدأ قال :« وجاز أن يتقدَّم الظَّرفُ على عامله المقترن ب » إلاَّ « ؛ لأنَّ الظروف تعمل فيها روائحُ الأفعال، ولو قلت : ما زيدٌ عمراً إلاَّ يضرب، لم يَجُزْ ».
فصل
الدَّليلُ على أنَّ متاع الدُّنيا في الآخرة قليل، أنَّ لذات الدُّنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفاتِ والبليات، ومنقطعة عن قريبٍ لا محالة، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفاتِ، ودائمة أبدية سرمدية، وذلك يوجب القطع بأنَّ متاع الدُّنيا في جنب متاع الآخرة قليل حقير.
قوله :﴿ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾.
في الآخرة، وقيل : هو احتباس المطر عنهم في الدنيا.
قال القرطبيُّ :« هذا شرطٌ، فلذلك حذفت منه النُّون. والجوابُ » يُعذِّبْكُم « و ﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ وهذا تهديدٌ ووعيدٌ لتارك النَّفير ». ﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ خيراً منكم وأطوع.
قال ابنُ عبَّاسٍ :« هم التابعون ».
وقال سعيدُ بن جبير :« هم أبناء فارس » وقيل : هم أهلُ اليمن. « وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً » بترككم النفير.
قال الحسنُ « الكناية راجعة إلى الله تعالى، أي : لا تضروا الله »، وقال غيره تعود إلى الرسول؛ لأنَّ الله عصمه من الناس، ولا يخذله إن تثاقلتم عنه.