روي أنَّ قريشاً لمَّا بيَّتُوا على قتل رسول الله ﷺ، وخرج رسولُ الله ﷺ وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر عليّاً أن يضطجع على فراشه، ليمنعهم السواد من طلبه، جعل أبُو بكر يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسولُ الله ﷺ :« ما لك يا أبا بكر؟ فقال : أذكر الطلب؛ فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك؛ فلما انتهينا إلى الغار دخل أبو بكر أولاً، يلتمس ما في الغار، فقال له رسُول الله ﷺ، ما لك؟ فقال بأبي أنت وأمِّي، الغيرَانُ مأوى السِّباع والهوام، فإن كان فيه شيء كان بِي لا بِكَ وكان في الغارِ حجر، فوضع عقبه عليه، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله ﷺ، فقال ﷺ » لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا « فقال أبو بكر : إن الله لمعنا، فقال الرسول » نعم « فجعل يمسح الدموع عن خدِّه، ولم يكن حزن أبي بكر جبناً منه، وإنَّما إشفاقاً على رسول الله ﷺ، وقال : إن أقتل فأناً رجلٌ واحدٌ، وإن قتلت هلكت الأمة. »
وروي أنَّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغارِ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله ﷺ « اللَّهُمَّ أعْمِ أبصارهم » فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً.

فصل


دلَّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه :
أحدها : أنَّه ﷺ لمَّا ذهب إلى الغار كان خائفاً من الكفار أن يقتلوه، فلولا أنه ﷺ كان قاطعاً بأنَّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصِّيقين، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنُه بخلاف ظاهره، لخافه أن يدل أعداءه عليه، أو لخافه أن يقدم هو على قتله، فلمَّا استخلصه لنفسه في تكل الحالة، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره.
وثانيها : أن الهجرة كانت بإذن الله، وكن في خدمة رسول الله ﷺ جماعة من المخلصين، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول اله ﷺ، أقرب من أبي بكر، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين.


الصفحة التالية
Icon