فلمْ يبق إلاَّ أنَّه ﷺ أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه، فإمَّا أن يكون ذلك عن اجتهاد، أو لا، والثاني باطل؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات ﴾ [ مريم : ٥٩ ] فلمْ يبق إلاَّ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد.
فإن قيل : الآية تدلُّ على أنَّهُ لا يجوز له الاجتهاد؛ لأنه تعالى منعه بقوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ ؟ فالجوابُ : أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقاً، لقوله تعالى :﴿ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] والحكم الممدود إلى غاية ب « حتّى » يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلَّ على صحة قولنا.
فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ من ذلك التَّبيين هو التَّبيين بطريق الوحي؟.
فالجواب : ما ذكرتموه محتمل؛ إلاَّ أنه على تقديركم، يصير تكليفه، أن لا يحكم ألبتة، حتى ينزل الوحين فلمَّا ترك ذلك، كان كبيرة، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه، لقوله :« ومن اجتهد فأخطأ فله أجر » فكان حمل الكلامِ عليه أولى.
فصل
دلَّت هذه الآية على وجوب التثبت، وعدم العجلة، والتَّأنِّي، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتَّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه.
فصل
قال قتادةُ : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثمَّ رخَّص له في سورة النُّور فقال :﴿ فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾ [ النور : ٦٢ ].
فصل
قال أبُو مسلم الأصفهاني في قوله ﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ : ليس فيه ما يدل على أنَّ الإذن في ماذا؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القُعُودِ؛ فأذن له، ويحتملُ أن بعضهم استأذن في الخروجِ؛ فأذن له، مع أنَّ ما كان خروجهم معه صواباً، لكونهم عيوناً للمنافقين على المسلمين، وكانوا يثيرون الفتنَ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرَّسُول مصلحة، قال القاضي « هذا بعيدٌ؛ لأن هذه الآية نزلتْ في غزوة تبوك على وجه الذَّم للمتخلفين، والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم ».