والثالثة : كونه أميّاً.
قال الزجاج : وهو الذي على صفة أمة العرب، كما تقدم في قوله عليه السلام :« إنا أمَّة أمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب »
قال المحقِّقُون : وكونه أميّاً بهذا التفسير من جملة معجزاته وبيانه من وجوه :
الأول : أنه - ﷺ - كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى مَنْظُوماً مرَّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه، ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطب ثم أعادها؛ فلا بد أن يزيد فيها، وأن ينقص عنها بالقليل والكثير، وهو - ﷺ - مع أنه ما كان يكتبُ وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير، فكان ذلك من المعجزات وإيله الإشارة بقوله :﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ].
الثاني : لو كان يُحسِن القراءة والخَطَّ لكان مُتَّهما في القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة كلَّما أتى به من غير تعلم، ولا مطالعة؛ فكان ذلك من المعجزات وهو المرادُ من قوله :﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون ﴾ [ النعكبوت : ٤٨ ] الثالث : أن تعلَّم الخط شيء سهل فإن أقلَّ النَّاس ذكاء وفطنة يتعلمون الخطَّ بأهون سعي فعدم تعلمه يدلُّ على نقص عظيم في الهمم، ثم إنَّهُ تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من البشر، ومع تلك القوة العظيمة والفهم جعله بحيثُ لم يتعلم الخط الذي يسهُل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين، وذلك من الأمُورِ الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات.
الصفة الرابعة : قوله :﴿ يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] وهذا يدُلُّ على أن نعته وصحة نبوته مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل؛ لأنَّ ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله؛ لأنَّ الإصرار على الكذب من أعظم المنفّرات، والعاقلُ لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر النَّاس عن قبول قوله وإذا كان مذكوراً في التَّوراة والإنجيلِ كان معجزة له دالةً على صدقهِ.
قال عطاءُ بنُ يسار : لقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاصِ، قلت : أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة.
قال : أجَلْ، واللَّه إنَّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ﴿ ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٤٥ ] وحِرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سمِّيْتُكَ المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يفعو، ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملَّة العَوْجَاء، بأن يقولوا : لا إله إلا الله، ويفتح بها أعْيُناً عُمْياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلْفاً.
وعن كعب قالك إني أجدُ في التوراة مكتوباً محمد رسول الله لا فظّ، ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحامدون، يحمدون الله في كل منزل، وعلى كلِّ نجد، يأتزرُون على أنصافهم، ويغضون أطرافهم، صَفُّهُمْ في الصلاة وصفهم في القتال سواء، مناديهم ينادي في جوِّ السماءِ، لهم في جوف الليل دَويٌّ كدويِّ النحل، مولده بمكَّة، ومخاهره بطيبة، ومُلْكُهُ بالشَّام.