ثم قال تعالى :﴿ فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾.
قال الليثُ : يقال : أعقب فلاناً ندامةٌ، إذا صيرت عاقبة أمره ذلك، قال الهذليُّ :[ الكامل ]
٢٨١٧- أودى بنيَّ وأعقبُوني حَسْرَةً | بَعْد الرُّقادِ وعبْرَةٌ لا تُقْلِعُ |
فصل
« فأعقبهم » فعل، ولا بد من إسناده إلى شيء تقدَّم ذكره، والذي تقدَّم ذكره هو الله تعالى، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض، ولا يجوزُ إسناد إعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التَّصدق أو الصلاح، لأنَّ هذه الثلاثة أعمال الخير؛ فلا يجوز جعلها مؤثرة في حصول النفاق في القلب؛ لأنَّ النفاقَ عبارة عن الكُفْرِ، وهو جهل وترك بعض الواجب لا يكون مؤثراً في حصول الجهلِ في القلب؛ لأنَّ ترك الواجب عدمٌ، والجهل وجود، والعدم لا يكون مؤثراً في الوجود؛ لأنَّ البخل والتولي والإعراض، قد يوجدُ في كثير من الفُسَّاقِ، مع أنَّهُ لا يحصلُ معه النفاق؛ ولأنَّ هذا الترك لو أوجب حصول الكفرِ في القلب لأوجبه، سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو محرماً شرعاً؛ لأنَّ سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً؛ ولأنه تعالى قال :﴿ بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ [ التوبة : ٧٧ ] فلو كان فعل الإعقاب مسنداً إلى البخل، والتولي، والإعراض لصار تقدير الآية : فأعقبهم ببخلهم وتوليهم وإعراضهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفُوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، وذلك لا يجوز؛ لأنَّه فرق بين التَّولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي، ومعلومٌ أنه كلام باطل؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يجوز إسناد الإعقاب إلى شيء من الأشياءِ المتقدم ذكرها إلاَّ إلى الله تعالى؛ فوجب إسناده إليه؛ فصار المعنى : أنَّ الله تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم، وذلك يدلُّ على أنَّ خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى، وهذا هو الذي قاله الزجاجُ، إنَّ معناه : أنَّهُم لمَّا ضلُّوا في الماضي فهو تعالى أضلَّهُم عن الدِّين في المستقبل، ويؤكدُ ذلك قوله تعالى :﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾ فالضميرُ في قوله :« يَلقَوْنَهُ » عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله :« فأعْقَبَهُمْ » مسنداً إلى اللهِ تعالى.
قال القاضي « المرادُ من قوله :﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ أي : فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي : حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذُّل والذنب ويدوم بهم ذلك إلى الآخرة ».