فالجواب : لعلَّ السَّبب فيه، أنَّه لمَّا طلب من الرسول - ﷺ - القميص الذي يمسّ جلده، ليدفن فيه، غلب على ظنّ الرسول - ﷺ - أنه آمن؛ لأنَّ ذلك الوقت وقت توبة الفاجر، وإيمان الكافر، فلمَّا رأى منه إظهار الإسلام، وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على إسلامه، غلب على ظنِّه إسلامه؛ فبنى على هذا الظَّن، ورغب في الصلاة عليه، فلمَّا نزل جبريلُ عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه؛ امتنع من الصلاة عليه وأمَّا دفع القميص إليه، وكان رجلاً طويلاً؛ فكساهُ عبدالله قميصه. وقيل : إنَّ المشركين قالوا له يوم الحديبيةِ : إنَّا لا ننقادُ لمحمَّدٍ، ولكنَّا ننقاد لك، فقال : لا، إنَّ لي في رسول الله أسوةً حسنةً؛ فشكر رسولُ الله له ذلك. قال ابنُ عيينة : كانت له عند النبي ﷺ يدٌ فأحبَّ أن يُكافِئَهُ.
وقيل : إنَّ الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً، لقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ ﴾ [ الضحى : ١٠ ] فلمَّا طلب القميص منه دفعه إليه، لهذا المعنى. وقيل : إنَّ منع القميص لا يليقُ بأهل الكرم وذلك أنَّ ابنه عبد الله بن عبدالله بن أبيّ كان من الصالحين؛ فالرسولُ أكرمه لمكان ابنه وقيل : لعلَّ اللهَ تعالى أوحى إليه، أنَّك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك سبباً لدخول نفر من المنافقين في الإسلامِ، فقيل لهذا الغرض، كما روي فيما تقدَّم، وقيل : إنَّ الرّأفة والرحمة كانت غالبةً عليه ﷺ، لقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ] فامتنع من الصَّلاة عليه، لأمر الله تعالى، ودفع القميص رأفة ورحمة.
واعلم أنَّ قوله ﴿ وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾ يحتملُ تأبيد النَّفي، ويحتملُ نفي التأبيد والأول هو المقصودُ؛ لأنَّ قرائن هذه الآية دالَّة على أنَّ المقصود منعه من أن يصلِّي على أحد منهم منعاً كُلِّيّاً دائماً.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ ﴾ وفيه وجهان :
الأول : قال الزَّجَّاجُ « كان رسول الله ﷺ إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له » فمنع منه ههنا. الثاني : قال الكلبي :« لا تقم بإصلاح مُهمَّات قبره، ولا تتولّ دفنه »، من قولهم : قام فلانٌ بأمر فلان، إذا كفاه أمره، ثمَّ إنه تعالى علَّل المنع من الصَّلاة عليه، والقيام على قبره بقوله :﴿ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
فإن قيل : الفسقُ أدْنَى حالاً من الكفر، فلما علل بكونه كافراً؛ فما فائدةُ وصفه بعد ذلك بالفسق؟.


الصفحة التالية
Icon