قوله :« قُلْتَ » فيه أربعة أوجهٍ، أحدها : أنَّهُ جواب « إذا » الشَّرطيَّة، و « إذَا » وجوابها في موضع الصِّلةِ، وقعت الصِّلةُ جملة شرطية، وعلى هذا؛ فيكونُ قوله :« تولَّوا » جواباً لسؤال مقدر كأنَّ قائلاً قال : ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب؟ فأجيب بقوله :« تَوَلَّوْا ».
الثاني : أنَّه في موضع نصب على الحال، من « أتوكَ »، أي : إذَا أتوكَ، وأنت قائلٌ : لا أجدُ ما أحملكم عليه، و « قَدْ » مقدرة، عند من يشترطُ ذلك في الماضي الواقع حالاً، كقوله :﴿ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ [ النساء : ٩٠ ] في أحد أوجهه كما تقدَّم، وإلى هذا نحا الزمخشريُّ.
الثالث : أن يكون معطوفاً على الشَّرط؛ فيكون في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف، والتقدير : وقلت، وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني، وتبعه ابنُ عطيَّة، إلا أنَّه قدَّر العاطف فاءً أي : فقلت.
الرابع : أن يكون مستأنفاً. قال الزمخشريُّ « فإن قلت : هل يجُوزُ أن يكون قوله :» قلت لا أجدُ « استئنافاً مثله؟ - يعني مثل :﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف ﴾ [ التوبة : ٩٣ ] - كأنَّه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولَّوا، فقيل : ما لهُم تولَّوا باكينَ؟ قلت لا أجدُ ما أحملهم عليه إلاَّ أنَّه وسط بين الشرط والجزاء، كالاعتراض؟ قلتُ : نعم، ويحسنُ » انتهى.
قال أبُو حيَّان « ولا يجوزُ، ولا يحسن في كلام العربِ، فكيف في كلام الله؟ وهو فهم أعجمي » قال شهابُ الدين : وما أدري ما سببُ منعه، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنًى؟ وذلك لأنَّ تولِّيهم على حالة فيض الدَّمع ليس مرتباً على مجرَّد مجيئهم له ﷺ - لهم ذلك سببٌ في بكائهم؛ فحسن أن يجعل قوله :﴿ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ ﴾ جواباً لمنْ سأل عن علةِ تولِّيهم، وأعينُهم فائضةٌ دمعاً وهو المعنى الذي قصده أبُو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في « قُلْتَ » يكون جواب الشَّرط قوله :« تولَّوا »، وقوله « لِتحْمِلهُمْ » علة ل « أتَوْكَ ». وقوله :« لا أجدُ » هي المتعديةُ لواحدٍ؛ لأنَّها من « الوُجْد »، و « مَا » يجوز أن تكون موصولةً، أو موصوفةً.
فصل
قال أبُو العباس المقرىء : ورد لفظ التَّولِّي في القرآن على أربعة أوجه :
الأول : بمعنى الانصراف، قال تعالى :﴿ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ ﴾ [ التوبة : ٩٢ ] ومثله قوله تعالى ﴿ ثُمَّ تولى إِلَى الظل ﴾ [ القصص : ٢٤ ] أي : انصرف.
الثاني : بمعنى :« أبَى »، قال تعالى ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم ﴾ [ المائدة : ٤٩ ] أي : أبَوْا أن يؤمنوا؛ ومثله قوله تعالى