قوله :« سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ » تقدَّم الكلامُ في نصب ﴿ مَرَّةٍ ﴾ [ التوبة : ١٣ ]، وأنَّه من وجهين، إمَّا المصدرية، وإمَّا الظرفية، فكذلك هذا، وهذه التثنيةُ يحتملُ أن يكون المرادُ بها شفعَ الواحد، وعليه الأكثر، واختلفُوا في تفسيرها، وألاَّ يُرادَ بها التثنية الحقيقية، بل يُراد بها التَّكثيرُ، كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾ [ الملك : ٤ ]، أي : كرَّاتٍ، بدليل قوله :﴿ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [ الملك : ٤ ]، أي : مزدجراً، وهو كليلٌ، ولا يصيبه ذلك إلاَّ بعد كرَّات، ومثله « لبَّيْكَ، وسعْديكَ، وحنَانيْكَ ».
وروى عياشٌ عن أبي عمرو « سنُعذِّبْهُم » بسكون الباءِ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركاتِ ك ﴿ يَنصُرْكُمُ ﴾ [ آل عمران : ١٦٠ ] وبابه، وإن كان باب « ينْصُركُم » أحسن تَسْكِيناً، لكون الرَّاءِ حرف تكرار؛ فكأنه توالى ضمَّتان، بخلاف غيره، وقد تقدَّم تحريره.
وقال أبُو حيَّان : وفي مصحف أنس « سيُعذِّبهُم » بالياءِ، وقد تقدَّم أنَّ المصاحفَ كانت مهملة من النقط والضبط بالشكْلِ، فكيف يقال هذا؟!
فصل
وأمَّا اختلافهم في هذين العذابين : فقال السُّديُّ والكلبيُّ : قام النبيُّ ﷺ خطيباً يوم الجمعة فقال :« اخْرُجْ يا فلانُ فإنَّك مُنافقٌ اخْرُجْ يا فُلانُ... » فأخرج من المسجد ناساً، وفضحهم، فهذا هو العذابُ الأولُ.
والثاني : عذاب القبر. وقال مجاهدٌ : الأولُ القتل والسبي، والثاني عذاب القبر، وعنه رواية أخرى عُذِّبُوا بالجوع مرَّتين. وقال قتادةُ : بالدبيلة في الدُّنيا، وعذاب القبر. وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدُّنيا، والأخرى عذاب القبر. وعن ابن عبَّاسٍ : الأولى إقامة الحدود عليهم، والأخرى عذاب القبر. وقال ابنُ إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام، ودخولهم فيه من غير حسبة، ثم عذاب القبر. وقيل : أحدهما ضرب الملائكة وجوههم، وأدبارهم عند قبض أرواحهم، ثم عذاب القبر، وقيل : الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضّرار، والأخرى إحراقهم بنار جهنَّم ثُمَّ يردُّون إلى عذابٍ عظيم أي : عذاب جهنم يخلدون فيه وقال الحسنُ : الأولى أخذ الزكاة من أموالهم، وعذاب القبر.
قوله تعالى :﴿ وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾ الآية.
« وآخرون » نسقٌ على « مُنافِقُون » أي : وممَّن حولكم آخرون، أو من أهلِ المدينة آخرون. ويجوزُ أن يكون مبتدأ، و « اعترفُوا » صفته، والخبر قوله :« خلطُوا ». قوله :« وآخَرَ » نسقٌ على « عَمَلاً ». قال الزمخشريُّ :« فإن قلت : قد جُعِلَ كُلُّ واحد منهما مخلُوطاً، فما المخلُوط به؟ قلتُ : كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به؛ لأنَّ المعنى : خلط كل واحدٍ منهما بالآخر، كقولك : خلَطْتُ الماءَ واللَّبن، تريدُ : خلطتُ كُلَّ واحدٍ منهما بصاحبه. وفيه ما ليس في قولك : خلطتْ الماءَ باللَّبَنِ؛ لأنَّك جعلت الماء مَخْلُوطاً، واللَّبنَ مخلوطاً به، وإذا قلته بالواو جعلتَ الماءَ واللَّبنَ مخلوطين، ومخلوطاً بهما، كأنَّك قلت : خلطتُ الماءَ باللبن، واللبن بالماءِ ».