فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ كلَّ موجود فإنَّهُ يصحُّ رؤيته، لما بيَّنَّا من أنَّ الرُّؤية معدَّاة إلى مفعولٍ واحدٍ، والقوانين اللُّغوية شاهدةٌ بأنَّ الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها : الإبصار ثم إنَّه تعالى عدَّى هذه الرؤية إلى عملهم، والعمل ينقسمُ إلى أعمال القلوب، كالإرادات والكراهاتِ والخواطر، وإلى أعمال الجوارح، كالحركات والسَّكنات؛ فوجب كونه تعالى رائياً للكل وأما الجبائي فإنه استدل بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسَّكنات فلمَّا قيل له : فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القُلوبِ، فأجابَ بأنَّه تعالى عطف عليه قوله ﴿ وَرَسُولُهُ والمؤمنون ﴾ وهم إنَّما يَرَوْنَ أفعال الجوارحِ؛ فلما تقيَّدت هذه الرؤية بأعمالِ الجوارح في حقِّ المعطوف؛ وجب تقييدها بهذا القيد في حقِّ المعطوفِ عليه، وهذا استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ العطف لا يفيدُ إلاَّ أصل التَّشريك. فأمَّا التسوية في كُلِّ الأمُورِ فغير واجب فدخولُ التَّخصيص في المعطوف لا يوجبُ دخول التَّخصيص في المعطوف عليه، ويمكنُ بأن يقول الجبائيُّ : رؤيةُ الله تعالى حاصلة في الحالِ، ولفظ الآية مختصّ بالاستقبال، لقوله :﴿ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ ﴾ فدلَّ على أنَّ المرادَ ليس هو الرُّؤيةُ، بل المرادُ منه الجزاء على الأعمال، أي : فسيوصل لكم جزاء أعمالكم، وقد يجابُ : بأنَّ إيصال الجزاءِ إليهم مذكور بقوله :﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فلوْ حملنا هذه الرُّؤيةِ على إيصال الجزاءِ، لزم التَّكرارِ وهو غير جائز.

فصل


ذكروا في الفائدة في ذكر الرسولِ، والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين وجهين :
الأول : أنَّ أجدر ما يدعو المرءُ إلى العمل الصَّالح هو ما يحصلُ له من المدح والتَّعظيم، فإذا علم أنَّهُ إذا فعل ذلك الفعل عظَّمه الرسولُ والمؤمنون، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه، فكأنه قيل : إن كنت من المُحِقِّين في عبودية الحق، فاعمل الأعمال الصالحة للفوز بثناء الخلقِ، وهو الرسول والمؤمنون.
الثاني : ما ذكره أبو مسلم : أنَّ المؤمنين شهداء الله يوم القيامة، لقوله :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ]، والرسول شهيد الأمَّة، لقوله :﴿ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً ﴾ [ النساء : ٤١ ] ؛ فثبت أنَّ الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامةِ، والشهادة لا تصحُّ إلاَّ بعد الرُّؤيةِ؛ فذكر الله أنَّ الرسول والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصودُ التنبيه على أنَّهم يشهدون يوم القيامة عند حضورِ الأولين والآخرين، بأنَّهم أهل الصِّدق والسّداد والعفافِ والرشاد.
قوله :﴿ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة ﴾. قال ابنُ عباسٍ : الغيبُ : ما يسرونه والشهادة : ما يظهرونه. قال حكماءُ الإسلامِ : الموجوداتُ الغائبةُ عن الحسّ علل أو كالعلل للموجودات المحسوسة، وعندهم أنَّ العلم بالعلَّةِ علة للعلم بالمعلول؛ فوجب كونُ العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشَّهادة؛ فلهذا السَّبب أينما جاء الكلامُ في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة.


الصفحة التالية
Icon