قال قتادة : قال النبي ﷺ « لأستغفرنَّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه » فأنزل الله هذه الآية. وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال :« لمَّا حضرت أبَا طالب الوفاةُ جاءَهُ رسُول اللهِ ﷺ فوجدَ عندهُ أبَا جهْلٍ، وعبد الله بنَ أبِي أميَّة بن المُغِيرة - فقال : يا عم قُلْ لا إله إلاَّ اللهُ أحَاجُّ لَكَ بِها عند اللهِ » فقال أبو جَهْلٍ وعبدُ الله بنُ أبي أميَّة : أتَرغَبُ عن ملَّةِ عَبْدِ المُطلبِ؟ فلمْ يزلْ رسُول الله ﷺ يَعْرِضُها عليْهِ ويُعيدُ لَهُ تِلكَ المقالةَ، حتَّى قَالَ أبُو طالب آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ : على مِلَّة عبدِ المُطَّلبِ وأبَى أنْ يقُولَ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فقال رسُول الله ﷺ « لأسْتَغفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أنه عَنْكَ » فأنزل الله هذه الآية، وقوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ]. وفي رواية قال رسُولُ الله ﷺ لِعَمِّهِ « قُلْ : لا إله إلاَّ اللهُ أشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القيامةِ »، قال : لَوْلاَ أنْ تُعَيِّرنِي قُريشٌ، يقُولُونَ : إنَّما حملهُ على ذَلِكَ الجَزَعُ لأقْرَرْتُ بها عيْنكَ؛ فنزل قوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ] الآية. قال الواحديُّ :« وقد استبعده الحسينُ بنُ الفضلِ؛ لأنَّ هذه السُّورة من آخر القرآن نزولاً، ووفاة أبي طالب كانت بمكة أول الإسلام ».
قال ابنُ الخطيب « وليس هذا بمُسْتَبعدٍ؛ فإنَّهُ يمكن أن يقال : إنَّ النبي - ﷺ - بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى حين نزول ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ] وروي عن علي بن أبي طالبٍ أنَّه سمع رجُلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، قال : فقلت له : أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال : أو ليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان؟ فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت هذه الآية ».
وفي رواية : فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ ﴾ إلى قوله ﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ].

فصل


قال القرطبيُّ :« تضمَّنَتْ هذه الآية قطع موالاة الكُفَّارِ حيِّهم وميِّتهم؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين؛ فطلب الغفران للمشرك لا يجوز، فإن قيل : صحَّ أنَّ النبي ﷺ قال يوم أحد حين كُسِرَتْ رباعيتُه وشُجَّ وجهه :» اللَّهُمَّ اغفر لِقوْمِي فإنَّهُم لا يَعْلمُونَ « فكيف الجمع بين الآية والخبر؟ فالجوابُ أنَّ ذلك القول من النبيِّ ﷺ كان على سبيل الحكاية عمَّنْ تقدَّمه من الأنبياء، بدليل ما رواه مسلم عن عبد الله قال : كأنِّي أنظرُ إلى النبي ﷺ يَحْكِي نبيّاً من الأنبياءِ ضربهُ قومهُ وهو يمسَحُ الدَّمَ عَنْ وجههِ ويقُولُ


الصفحة التالية
Icon