﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله ﴾ [ التوبة : ١٠٦ ].
والثاني - وهو قول الأكثرين - : أنهم ما ذهبوا خلف الرَّسُولِ - ﷺ - قال كعبٌ :« كان رسول الله ﷺ يحب حديثي، فلما أبطأت عليه في الخروج قال ﷺ : ما الذي حبس كعباً فلمَّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم، وأتيته فقلتُ : إن كراعي، وزادي كان حاضراً، واحتبست بذنبي، فاستغفر لي فأبى رسولُ الله ﷺ ذلك، ثمَّ إنَّه - ﷺ - نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم، حتى أمر بذلك نساءهم؛ فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبتْ وجاءت امرأة هلال بن أميَّة وقالت : يا رسول الله لقد بكى، حتَّى خفتُ على بصره، حتَّى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى :﴿ لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين ﴾ [ التوبة : ١١٧ ] وقوله :﴿ وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ ﴾ فخرج رسول الله ﷺ إلى حجرته، وهو عند أمِّ سلمة فقال : اللهُ أكبرُ؛ قد أنزلَ اللهُ عُذْرَ أصحَابِنَا » فلمَّا صلَّى الفَجْرَ ذكر ذلك لأصحابه، وبشرهم بأنَّ الله تاب عليهم؛ فانطلقُوا إلى رسُول الله ﷺ، فتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعبٌ : توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال :« لا » فقلتُ : نصفه، قال :« لا »، قلت : فثلثه، قال :« نعم ».

فصل


معنى :﴿ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ﴾ تقدَّم تفسيره في هذه السُّورةِ وسببه : إعراض الرسول عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، وبقائهم على ذهه الحالة خمسين يوماً، وقيل : أكثر حتَّى ضاقت عليهم أنفسهم، أي : ضاقت صدورهم بالغمِّ والهمِّ، ومجانية الأولياء، ونظر الَّاس إليهم بعين الإهانةِ، و « ظَنُّوا » أي : استيقنوا « أن لا مَلْجَأ » لا مفزع من الله إلا إليه.
قال ابنُ الخطيبِ : يقرب معناه من قوله ﷺ :« أعوذُ برضَاكَ مِنْ سُخْطكَ وأعُوذُ بعَفوكَ مِنْ غضبِك، وأعوذُ بكَ مِنْكَ ».
قوله :﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا ﴾ فيه وجوه :
أحدها : قال أهلُ السُّنَّةِ : المرادُ منه أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى، فقوله :« تَابَ عليْهِمْ » يدلُّ على أنَّ التوبة فعل الله وقوله :« لِيتُوبُوا » يدلُّ على أنَّها فعل العبدِ؛ فهو نظير قوله :﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً ﴾ [ التوبة : ٨٢ ] مع قوله ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ ﴾ [ النجم : ٤٣ ] وقوله ﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ ﴾ [ الأنفال : ٥ ] مع قوله ﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ التوبة : ٤٠ ] وقوله ﴿ هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ ﴾ [ يونس : ٢٢ ] مع قوله :﴿ قُلْ سِيرُواْ ﴾ [ الأنعام : ١١ ].
وثانياً : تاب عليهم في الماضي ليكون داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل.
وثالثها : أصلُ التوبة الرُّجوع أي : تاب عليهم؛ ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك.


الصفحة التالية
Icon