والمعنى : ولا ينالهم من العدو أسراً، أو قتلاً، أو هزيمةً قليلاً كان أو كثيراً ﴿ إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾ أي كان ذلك قربة عند الله لهم.
قال قتادة :« هذا الحكم من خواص رسول الله ﷺ إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلَّف عنه إلاَّ بعذر » وقال ابنُ زيدٍ : هذا حين كان المسلمون قلّة فلمَّا كثروا نسخها الله بقوله :﴿ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾. وقال عطيَّة : ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم، وهذا هو الصحيحُ؛ لأنَّ إجابة الرَّسُولِ واجبة، وكذلك غيره من الأئمة.
قال الوليدُ بنُ مسلم : سمعتُ الأوزاعيَّن وابن المباركِ، وابن جابرٍ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : إنَّها لأوّلِ هذه الأمَّةِ وآخرها، وذلك لأنا لو سوَّغْنَا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعضٌ دون بعض فيؤدي ذلك إلى تعطيل الجهادِ.
قوله :﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً ﴾ أي : تمرة فما فوقها، وعلاقة سوط فما فوقها ﴿ وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً ﴾ قال الزمخشريُّ :« الوَادِي » : كل منفرجٍ بين جبال وآكام يكونُ منفذاً للسبيل، وهو في الأصل فاعل من : ودَى، إذا سَالَ، ومنه « الوَدِيّ ». وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض. وجمع على « أوْدِيَة »، وليس بقياس، وكان قياسُه « الأوداي »، ك « أواصل » جمع :« واصل »، والأصلُ : ووَاصل، قلبت « الواو » الأولى همزة. وهم قد يستثقلون واحده، حتى قالوا :« أقَيْتُ » في « وَقيْتُ ». وحكى الخليل، وسيبويه، في تصغير واصل اسم رجل « أوَيْصِل »، ولا يقولون غيره قال النَّحَّاسُ « ولا أعرفُ فاعلاً وأفعلة سواهُ » وقد استدركَ هذا عليه؛ فزادُوا : نَادٍ وأندية؛ وأنشدوا :[ الطويل ]

٢٨٥٩- وفِيهمْ مقامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ وأنديَةٌ ينْتَابُهَا القوْلُ والفِعْلُ
والنَّادي المجلسُ.
وقال الفرَّاءُ : إنَّه يجمع على « أوْدَاء » ك « صاحب وأصحاب » ؛ وأنشد لجرير :[ الوافر ]
٢٨٦٠- عَرَفتْ بِبُرقَةِ الأوْدَاءِ رَسْماً مُحِيلاً طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ
وزاد الرَّاغبُ في « فاعل وأفْعِلَة » :« نَاجٍ وأنْجِيَة » فقد كمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظٍ، في « فاعل وأفْعِلَة ». ويقالُ : أوداه : أي : أهلكه؛ كأنهم تصَوَّرُوا منه إسالة الدَّم. وسمي الدِّية ديةً؛ لأنَّها في مقابلة إسالة الدَّم. ومنه « الوَدْيُ » وهو ماءُ الفَحْل عند المداعبة، وما يخرجُ عند البول، و « الوَدِيُّ » بكسر الدال وتشديد الياء : صغار النَّحل.
قوله :« إلاَّ كُتِبَ » هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « ظَمَأ » وما عطف عليه أي : لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً. وأفرد الضَّمير في « به »، وإن تقدَّمته أشياء، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة، أي : كُتبَ لهم بذلك عملٌ صالحٌ.


الصفحة التالية
Icon