[ الزمر : ١٨ ].
قالوا : فيحمل الأخذ بالأحسن على النَّدب.
ومنها : قال قُطْرُبٌ :
﴿ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ﴾ أي : بحسنها، وكلها حسن؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] وأنشد بيت الفرزدق المتقدم. ومنها : أن الحسن يدخلُ تحته الواجب، والمندوب، والمباح وأحسن هذه الثلاثة : الواجبُ، والمندوبُ.
قوله :﴿ سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين ﴾ جَوَّزُوا في الرُّؤية هنا أن تكون بصريَّةً، وهو الظَّاهِرُ فتتعدَّى لاثنين، أحدهما : ضمير المخاطبين، والثاني : دَارَ.
والثاني : أنَّها قلبية، وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره، والمعنى : سأعْلِمُكُمْ سَيْرَ الأولين وما حَلَّ بهم من النَّكَالِ : وقيل :« دَارَ الفاسِقِينَ » ما دَارَ إليه أمرهم، وذلك لا يُعْلم إلا بالإخبار والإعلام.
قال ابءنُ عطيَّة - معترضاً على هذا الوجه - : ولَوْ كَانَ من رؤية القلب، لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفاعيل.
ولو قال قائلك المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى، فهو مُقَدَّرٌ أي : مذمومة أو خربة أو مُسَعَّرة - على قول من قال : إنَّهَا جهنم - قيل له : لا يَجُوزُ حذفُ هذا المفعولِ، ولا الاقتصارُ دُونَهُ، لأنَّهَا داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ، ولو جُوِّزَ لكان على قبح في اللِّسان، لا يليق بكتاب الله تعالى.
قال أبُو حيان :« وحَذْفُ المفعُول الثَّالث في باب » أعْلَمَ « لدلالة المعنى عليه جائزٌ، فيجوزُ في جواب : هل أعلمتَ زَيْداً عمراً منطلقاً؟ أعلمتُ زيداً عمراً، وتحذف » منطلقاً « لدلالة الكلام السَّابق عليه ».

فصل


قال شهابُ الدِّين : هذا مُسَلَّمٌ، لكن أيْنَ الدَّليل عليه في الكلام، كما في المثال الذي أبرزه الشَّيْخُ؟
ثم قال :« وأمَّا تَعْليلُهُ بأنَّهَا داخلةٌ على الخَبَرِ لا يدلُّ على المنع، لأنَّ خبر المبتدأ يجوزُ حَذْفُهُ اختصاراً، والثانِي، والثَّالِثُ في باب » أعْلَمَ « يَجُوزُ حذفُ كُلٍّ منهما اختصاراً ».
قال شهابُ الدِّين :« حذفُ الاختصار لدليلٍ، ولا دليلَ هَنَا ».
ثم قال :« وفي قوله لأنَّهَا - أي :» سَأريكُمْ « - داخلةٌ على المبتدأ، والخبر تجوُّزٌ » ويعني أنَّها قبل النَّقْل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر. وقرأ الحسن :« سَأوريكُمْ » بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان : أحدهما قاله الزمخشريُّ - :« وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقَالُ : أوْرَنِي كَذَا وأوْرَيْتُهُ، فوجهه أن يكون من أوْرَيْتُ الزَّنْدَ، فإن المعنى : بَيِّنْهُ لي وأنِزْهُ لأستبينَه ».
والثاني :- ذكره ابنُ جنيٍّ - وهو أنَّهُ على الإشباع، فيتولَّد منها الواو، قال « وناسَبَ هذا كونُهُ موضعَ تهديدٍ ووعيدٍ فاحتمل الإتيان بالواو ».
قال شهابُ الدِّين : وهذا كقول الشاعر :[ البسيط ]
٢٥٧٣ - اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا يَوْمَ اللِّقاءِ إلى أحْبَابِنَا صًورُ
وأنِّنِي حَيْثُمَا يُثْني الهَوَى بَصَرِي مِنْ حَيْثُمَا سَلَكُوا أدْنُوا فأنْظُورُ
لكن الإشباعَ بابُهُ الضَّرُورَةُ عند بعضهم. وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وقسامة بن زيد « سأورثُكُمْ » قال الزمخشريُّ : وهي قراءة حسنةٌ، يصحِّحُهَا قوله تعالى :﴿ وَأَوْرَثْنَا القوم ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ].

فصل


في قوله :﴿ سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين ﴾ وجهان : الأول : أنَّ المُرادَ به التهديدَ والوعيد وعلى هذا ففيه وجهان :
أحدهما : قال ابن عباس والحسنُ ومجاهدٌ : هي : جهنم وهي مصيرهم في الآخرة، فاحْذَرُوا أن تكونوا منهم.
وثانيهما : قال قتادةُ وغيره : سأدخلكم الشَّام؛ فأريكم منازل القُرُون الماضيةِ مثل الجبابرةِ، والعمالقةِ، ومنازل عادٍ وثَمُودَ الذين خالفُوا أمْرَ اللَّهِ لتعتبروا بها.
الوجه الثاني : المُرَادُ به الوعد والبشارة بأنَّ الله تعالى سيوِّرثُهم أرض أعدائهم وديارهم وهي أرض مصر، قالهُ عطيةُ العوفيُّ؛ ويدلُّ عليه قراءة قسامة.
وقال السُّدِّيُّ : هي مصارع الكفار.


الصفحة التالية
Icon