فمعنى الآية : خلق الله السموات والأرض وحدهُ لا شريكَ يعينه، ثم خلق الملائكة والجنَّ والبشر، وهو المراد من قوله ﴿ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ﴾ أي : لم يحدُث أحدٌ ولم يدخل في الوجود، إلاَّ من بعد أن قال له : كُنْ حتَّى كان. ثم قال ﴿ ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه ﴾ مُبَيِّناً بذلك أنَّ العبادة لا تصلح إلا له، وأنه هو المستحقُّ لجميع العبادات، لأنه هو المنعمُ بجميع النِّعم التي ذكرها.
ثم قال :﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ دالاًّ بذلك على وُجُوب التَّفكُّر في تلك الدَّلائل القاهرة الباهرة.
قوله تعالى :﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾ الآية.
لمَّا ذكر الدَّلائل الدَّالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدلُّ على صحَّة القول بالمعاد فقوله « إليه مرجعكم » الرجع بمعنى الرجوع و « جميعها » نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت.
وقوله :« وعْدَ اللهِ » منصوبٌ على المصدر المؤكَّدِ؛ لأنَّ معنى « إلَيْهِ مرْجِعكُمْ » : وعدكم بذلك.
وقوله :« حَقّاً » مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبه مضمر، أي : أحَق ذلك حقّاً.
وقيل : انتصب « حَقّاً » ب « وَعْدَ » على تقدير « في »، أي : وَعْدَ الله في حق، يعني على التَّشْبيه بالظرف. وقال الأخفش الصغير : التقدير : وقت حق؛ وأنشد :[ الطويل ]

٢٨٧١- أحَقّاً عِبَادَ الله أنْ لَسْتُ ذَاهِباً وَلاَ وَالِجاً إِلاَّ عليَّ رَقيبُ
« إنَّهُ يَبْدَؤا » الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف، وقرأ عبد الله، وابن القعقاع، والأعمش، وسهيل بن شعيب بفتحها، وفيها تأويلاتٌ :
أحدها : أن تكون فاعلاً بما نصب « حَقّاً » أي : حقَّ بدءُ الخَلْقِ، ثُمَّ إعادته؛ كقوله :[ الطويل ]
٢٨٧٢- أَحَقّاً عبادَ اللهِ أنْ لَسْتُ جَائِياً .........................
البيت.
وهو مذهبُ الفرَّاء، فإنَّه قال « والتقدير : يحقُّ أنَّه يبدأ الخَلْق ».
والثاني : أنه منصوبٌ بالفعل الذي نصب « وَعْدَ اللهِ »، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى : إعادةُ الخلْقِ بعد بدئه.
الثالث : أنه على حذفِ لام الجرِّ، أي : لأنَّهُ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري وغيره.
الرابع : أنَّهُ بدلٌ من « وَعْدَ اللهِ » قالهُ ابن عطية.
الخامس : أنه مرفوعٌ بنفس « حَقّاً » أي : بالمصدر المنون، وهذا إنَّما يتأتَّى على جَعْل « حَقّاً » غير مؤكدٍ، لأنَّ المؤكَّدَ لا عمل له إلاَّ إذا نَابَ عن فعله، وفيه بحث.
السادس : أن يكون « حَقّاً » مشبهاً بالظَّرف خبراً مقدماً، و « إنَّه » في محلِّ رفع مبتدأ مؤخراً، كقولهم : أحقاً أنَّك ذاهبُ، قالوا : تقديره : أفي حقٍّ ذهابك.
وقرأ ابن أبي عبلة « حَقٌّ أنَّه » برفع حق وفتح « أنّ » على الابتداء والخبر، قال أبو حيَّان : وكون « حق » خبر مبتدأ، و « أنه » هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب، كما تقول : صحيحٌ أنك مخرج؛ لأنَّ اسم « أن » معرفة، والذي تقدَّمه في هذا المثال نكرة، فظاهرُ هذه العبارة يُشْعر بجواز العكس، وهذا قد ورد في باب « إنَّ » ؛ كقوله :[ الطويل ]


الصفحة التالية
Icon