والثالث : التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو : في الدَّار زيدٌ، والحجرة عمرو، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو : إن زيداً في الدَّار، وعمراً في القصر، أي : وإنَّ عمراً في القصر، وسيبويه وأتباعهُ يُخَرِّجُون ما ورد منه على إضمار الجارِّ، كقوله - تعالى - :﴿ واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرياح آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ الجاثية : ٥ ] بنصب « آيَات » في قراءة الأخوين، على ما سيأتي؛ كقوله :[ المتقارب ]
٢٨٩٢- أكُلَّ امرىءٍ تَحْسَبينَ امْرَأ | ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا |
٢٨٩٣- أوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قَلْباً حُرّاً | بالكَلْبِ خَيْراً والحَمَاةِ شَرًّا |
الثاني : أن « الَّذينَ » مبتدأ، و « جَزَآءُ سَيِّئَةٍ » مبتدأ ثانٍ، وخبره « بمثلها »، والباء فيه زائدةٌ، أي : وجزاءُ سيئةٍ مثلها، كقوله - تعالى - :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] كما زيدتْ في الخبرِ، كقوله :[ الوافر ]
٢٨٩٤- فَلاَ تَطْمَعْ - أبَيْتَ اللَّعنَ - فيها | ومنْعُكُهَا بشيءٍ يُسْتَطَاعُ |
وكقول امرىء القيس :[ الطويل ]
٢٨٩٥أ- فإنْ عنْهَا حِقْبَةً لا تُلاقِهَا | فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ |
الثالث : أنَّ الباء ليست بزائدةٍ، والتقدير : مقدَّر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُهُ خَبَرٌ عن الأول.
والرابع : أنَّ خبر « جزاء سيَّئةٍ » محذوفٌ، فقدَّرهُ الحُوفيُّ بقوله :« لهم جزاءُ سيئة »، قال : ودلَّ على تقدير « لَهُمْ »، قوله :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى ﴾ حتى تتشاكل هذه بهذه، وقدَّرهُ أبو البقاء : جزاءُ سيِّئة مثلها واقع، وهُو وخبرُهُ أيضاً خبرٌ عن الأول، وعلى هذين التقديرين، فالباء متعلقةٌ بنفس « جزاءُ » ؛ لأنَّ هذه المادَّة تتعدَّى بالباءِ، قال - تعالى - :﴿ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ ﴾ [ سبأ : ١٧ ]، ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ [ الإنسان : ١٢ ] إلى غير ذلك.
فإن قلت : أين الرَّابطُ بين هذه الجملة، والموصول الذي هو المبتدأ.
قلت : على تقدير الحوفيُّ، هو الضمرُ المجرور باللاَّم المقدَّر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء : هو محذوفٌ، تقديره : جزاءُ سيئة بمثلها منهُم واقعٌ، نحو :« السَّمْنُ منوانِ بدرهم »، وهو حذفٌ مُطَّرِد، لما عرف.
الخامس : أن يكون الخبرُ، الجملة المنفيَّة من قوله :﴿ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾، ويكون « مِنْ عَاصمٍ » إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله؛ لاعتماده على النَّفي، وإمَّا مبتدأ، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و « مِنْ » مزيدة فيه على كلا القولين، و « مِنَ الله » متعلِّق ب « عَاصِم »، وعلى كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ، وفي ذلك خلافٌ عن الفارسيِّ تقدَّم التنبيهُ عليه، وما استدلَّ به عليه.