ورابعها : أنْ يُحْمل على التقدير، أي : أنَّها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي، فإنَّها لا تهدي غيرها، إلاَّ بعد أن يهديها غيرها، ثم قال :﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ أي : تَقضُون، حين زعمتُم : أنَّ للهَ شريكاً.
قوله :﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً ﴾ الآية.
أي : يقولون إنَّ الأصنامَ آلهة، وأنَّها تشفع لهم في الآخرة، « ظَنّاً » : لمْ يردْ به كتابٌ ولا رسولٌ. وأراد بالأكثر، جميع من يقول ذلك.
وقيل : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلاَّ ظنّاً؛ لأنَّه قولٌ غير مسندٍ إلى برهانٍ عندهم، بل سمعُوه من أسلافهم، وهذا القول أولى؛ لأنَّا في الأول نحتاج إلى أن نُفَسِّر الأكثر بالكُلِّ.
قوله :« لاَ يُغْنِي » : خبرُ « إنَّ »، و « شيئاً » منصوبٌ على المصدر، أي : شيئاً من الإغناء، و « منَ الحقِّ » نصبٌ على الحالِ من « شَيْئاً » ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ له، ويجُوزُ أن تكون « مِن » بمعنى « بدل »، اي : لا يُغْنِي بدل الحقِّ، وقرأ الجمهور :« يَفْعلُون » على الغيبة، وقرأ عبد الله :« تَفْعَلون » خطاباً، وهو التفاتٌ بليغٌ، ومعنى الآية : إنَّ الظَّنَّ لا يدفع عنهم من عذَابِ الله شيئاً، وقيل : لا يقوم مقام العلم.
فصل
تمسَّك نُفاةُ القياس بهذه الآية، فقالوا : العملُ بالقياس عمل بالظَّنِّ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية، وأجيبوا : بأنَّ الدَّليل الذي دلَّ على وجوب العمل بالقياس، دليلٌ قاطعٌ، فكان وجوبُ العمل بالقياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا : بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا : بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، لكان ترك العمل به كُفْراً؛ لقوله - تعالى - :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] ولمَّا لمْ يكُن كذلك، بطل العمل به، ثم عبَّرُوا عن هذه الحُجَّة، فقالوا : الحكم المستفاد من القياس : إمَّا أن يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، أو يظن، أو لا يعلم ولا يظن.
والأرض باطل، وإلاَّ لكان من لم يَحْكُم به كافراً؛ لقوله - تعالى - :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ]، وبالاتِّفاق ليس كذلك.
والثاني : باطلٌ؛ لأنَّ الحكم بالظَّنِّ لا يجوز؛ لقوله - تعالى - :﴿ إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً ﴾.
والثالث : باطلٌ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك الحكم معلوماً، ولا مظنوناً، كان مجرد التَّشهي، فكان باطلاً؛ لقوله - تعالى - :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات ﴾