﴿ ولكن الشياطين ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ]، ﴿ ولكن الله رمى ﴾ [ الأنفال : ١٧ ].
قوله :« لاَ رَيْبَ فِيهِ » : فيه أوجه :
أحدها : أن يكون حالاً من « الكتاب » وجاز مجيءُ الحال من المُضاف إليه؛ لأنَّه مفعولٌ في المعنى، والمعنى : وتفصيل الكتاب مُنْتفياً عنه الرَّيْب.
والثاني : أنَّه مستأنفٌ فلا محلَّ لهُ من الإعراب.
والثالث : أنَّه معترضٌ بين « تَصْديقَ »، وبين « من ربِّ العالمينَ ».
قال الزمخشري :« فإن قلت : بِمَ اتَّصلَ قوله :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين ﴾ ؟.
قلت : هو داخلٌ في حيِّز الاستدراك، كأنَّه قيل : ولكن تصديقاً، وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ، كائناً من ربِّ العالمينَ، ويجُوزُ أن يراد به : ولكن كان تصديقاً من ربِّ العالمين، وتفصيلاً منه، لا ريب في ذلك، فيكون »
من ربِّ العالمينَ « : متعلِّقاً ب » تَصْديقَ «، و » تَفْصِيلَ «، ويكون » لا رَيْبَ فيهِ « : اعتراضاً، كما تقول : زيدٌ - لا شكَّ فيه - كريمٌ ». انتهى.
قوله :« مِن ربِّ » : يجوز فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكن متعلِّقاً ب « تَصْدِيقَ » أو ب « تَفْصِيلَ » وتكون المسألة من باب التنازع، إذ يصحُّ أن يتعلَّق بكلِّ من العاملين، من جهة المعنى، وهذا هو الذي أراد الزمخشري، بقوله : فيكون « من ربِّ » : متعلقاً ب « تَصْدِيقَ »، و « تَفْصِيلَ »، يعني : أنه متعلِّقٌ بكلٍ منهما، من حيث المعنى، وأمَّا من حيث الإعرابُ، فلا يتعلَّق إلاَّ بأحدهما، وأمَّا الآخرُ فيعملُ في ضميره، كما تقدَّم تحريره، والإعمالُ هنا حينئذٍ إنَّما هو للثَّاني، بدليل الحذف من الأول.
والوجه الثاني : أنَّ « مِن ربِّ » حال ثانية.
والثالث : أنَّه متعلِّقٌ بذلك الفعل المقدَّر، أي : أنزل للتَّصديق من ربِّ العالمين.

فصل


المعنى : وما ينبغي لمثل هذا القرآن، أن يُفْتَرَى من دون الله، كقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾ [ آل عمران : ١٦١ ]، وقيل :« أنْ » بمعنى : اللاَّم، أي : وما كان هذا القرآنُ ليُفْتَرَى، كقوله :﴿ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ]، و ﴿ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ]، و ﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ] أي : ليس وصفه هذا القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى على الله، والافتراءُ : الافتعال، من أفريتُ الأديم : إذا قدَّرته للقطع، ثم استعمل في الكذب، كما استعمل قولهم : اختلق فلان الحديث في الكذب، ثم إنَّهُ - تعالى - احتجَّ على صحَّةِ الدَّعوى بأمور :
الأول : قوله :﴿ ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي : إنَّ محمَّداً - ﷺ - كان رجُلاً أمِّيًّا، لم يتعلَّم العِلْمَ، وما كانت مكَّةُ بلدة العلماء، وليس فيها شيء من كتب العلم، ثم إنَّه - ﷺ - أتى بهذا القرآن المشتمل على أقاصيص الأولين، والقومُ كانوا في غاية العداوة لهُ، فلوْ لمْ تكُن ههذ الأقاصيص موافقة لما في التَّوراة، والإنجيل، لقدحوا فيه وبالغُوا في الطَّعن، فلمَّا لم يقُل أحدٌ ذلك، مع شدَّة حرصهم على الطَّعن فيه، علمنا أنَّه أتى بتلك الأقاصيص، مطابقة للتوراة والإنجيل، مع أنَّه ما طالعهما، ولا تتلمذ لأحدٍ فيهما، فدلَّ ذلك : على أنَّه إنما أتى بهذه الأشياء من قبل الوحي.


الصفحة التالية
Icon