وقيل : كُلَّما سمعُوا شيئاً من القصص، قالوا : ليس في هذا الكتاب، إلاَّ أساطير الأولين، ولم يعرفُوا أنَّ المقصود منها، ليس هو نفس الحكاية، بل أمور أخرى، وهي : بيانُ قدرة الله - تعالى - على التصرُّفِ في هذا العالم، ونقل أهله من العزِّ إلى الذُّل، ومن الذُّلِّ إلى العِزِّ، وذلك دليلٌ على القدرة الكاملة، وأيضاً : تدلُّ على أنَّ الدنيا فانيةٌ غير باقية؛ كما قال - تعالى - :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ﴾ [ يوسف : ١١١ ]، وأيضاً فهي دلالة على العجز؛ لكون النبي - ﷺ - لم يتعلَّم، ولم يتتلمذ لأحدٍ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه وحيٌ من الله - تعالى -، كما قال في الشعراء بعد ذكر القصص :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين ﴾ [ الشعراء : ١٩٢-١٩٤ ]، وقيل : إنَّهم كانُوا كُلَّما سمعوا حروف التَّهجِّي في أوائل السور، ولم يفهموها، ساء ظنُّهم بالقرآن؛ فأجاب - تعالى - بقوله :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ﴾ [ آل عمران : ٧ ]، وقيل : إنَّهم لمَّا سمعُوا القرآن ينزل شيئاً فشيئاً، ساء ظنهم، وقالوا : لو أنزل عليه القرآن جملة واحدة؛ فأجاب - تعالى - :﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [ الفرقان : ٣٢ ]، وقيل : إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً من إثبات الحشر والنشر، وكانوا ألفُوا الحياة، فاستبعدُوا حصول الحياةِ بعد الموت، فكذَّبُوا بالقرآن، وقيل : إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً بالصَّلاة، والزكاة، والعبادات، قال القوم : إن إله العالمين غنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، وأنَّه - تعالى - أجلُّ من أن يأمرنا بشيء لا فائدة فيه، فأجاب الله عنه، بقوله :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ [ الإسراء : ٧ ]، وبالجملة : فشبهات الكفارة كثيرة؛ فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمورٍ عرفوا حقيقتها، ولم يطلعُوا على وجه الحكمة فيها، لا جرم كذَّبوا بالقرآن.
قوله :« كذلِكَ » : نعتٌ لمصدر محذوفٍ، أي : مثل ذلك التَّكذيب، كذَّب الذين من قبلهم، أي : قبل النظر، والتدبُّر.
وقوله :﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ ﴾ كَيْفَ خبر ل « كَانَ »، والاستفهام معلِّقٌ للنَّظر.
قال ابن عطيَّة :« قال الزجاج :» كَيْفَ « في موضع نصبٍ على خبر » كان «، ولا يجوز أن يعمل فيها » انظر « ؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، هذا قانونُ النحويِّين؛ لأنَّهم عاملُوا » كَيْفَ « في كلِّ مكان معاملة الاستفهام المحض، في قولك » كيف زيد «، ول » كيف « تصرفاتٌ أخرى؛ فتحلُّ محلَّ المصدر الذي هو » كيفيَّة «، وتخلعُ معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكون منها. ومن تصرُّفاتها قولهم :» كُنْ كيفَ شِئْتَ «، وانظر قول البخاريِّ :» كيف كان بدءُ الوحي؛ فإنه لم يستفهم «.


الصفحة التالية
Icon