﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين ﴾ أي : بأحوالهم، أي : هل يبقُوا على الكفر أو يتُوبُوا.
ثم قال :﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي ﴾، وجزاؤه « ولكُم عملُكُم »، وجزاؤه ﴿ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ يونس : ٤١ ]، هذا كقوله - تعالى - :﴿ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ [ الشورى : ١٥ ]، ومعنى الكلام : الردع والزجر، وقيل : معناه : استمالة قلوبهم، قال مقاتلٌ والكلبيُّ :« هذه الآية منسوخة بآية السيف »، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ شرط النَّاسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخِ، ومدلُول هذه الآية : اختصاص كلِّ واحد بأفعاله، وثمراتها من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، فآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، فكان القولُ بالنسخ باطلاً.
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ الآية.
لمَّا قسَّم الكفار في الآية الأولى إلى :« مَنْ يُؤمن، ومن لا يُؤمن، قسَّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين : منهم من يكُون في نهاية البغض والعداوة، ومنهم من لا يكون كذلك، فوصف ههنا القسم الأوَّل، فقال :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ مع أنَّه يكون كالأصمِّ، من حيثُ إنَّه لا ينتفع ألبتَّة بذلك الكلام، فإنَّ الإنسانَ إذا قوي بغضه لإنسانٍ آخر، كان مُعرضاً عن سماع كلامه، ولا يلتفتُ إليه، كما أنَّ الصَّمَمَ في الأذن يمنع إدراك الصوت، والعمى في العين يمنع إدراك البصر، فكذا البغضُ الشديد يمنع من الوُقُوف على محاسن كلامه، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه.
قوله :» مَّن يَسْتمِعُونَ « : مبتدأ، وخبره الجارُّ قبله، وأعاد الضمير جمعاً؛ مراعاة لمعنى » مَنْ «، والأكثر مراعاة لفظه، كقوله :﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾ [ يونس : ٤٣ ].
قال ابن عطيَّة :» جاء ينظرُ على لفظ « مَنْ »، وإذا جاء على لفظها، فجائزٌ أن يعطف عليه آخرٌ على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ؛ لأنَّ الكلام يُلبسُ حينئذٍ «.
قال أبو حيَّان :» وليس كما قال، بل يجُوزُ أن تراعي المعنى أولاً، فتعيدَ الضَّميرَ على حسبِ ما تريد به من المعنى : من تأنيثٍ، وتثنيةٍ، وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [ البقرة٨ ].
فصل
أخبر - تعالى - في الآية أنَّ الإيمان، والتَّوفيق به لا بغيره، فقال :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ بأسماعهم الظاهرة، ولا ينفعهم، ﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم ﴾ يريد : صمم القلب ﴿ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾ : بعينه الظاهرة ولا ينفعه، ﴿ أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي ﴾ يريد : عَمَى القلب، ﴿ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ وهذه التَّسلية من الله - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه - ﷺ - يقول : إنَّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السَّمع، ولا أن تَهْدِي من سلبته البصر، ولا أن توفق للإيمان من حكمتُ عليه بأنَّه لا يُؤمن.