قال شهاب الدين : العمومُ ربطٌ من الروابط الخمسة؛ وعليه قول الشاعر :[ الطويل ]
٢٦١٢ - ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إلَى أمِّ سالمٍ | سَبِيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلاَ صَبْرا |
والوجه الثاني - من وجهي الخبر - : أنَّهُ محذوف، تقديره : والذين يمسكون مأجورون، أو مثابُونَ ونحوه.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ ﴾ جملة اعتراضية، قاله الحوفيُّ. ولا ضرورة تدعو إليه.
الثاني من وجْهَيْ « الذينَ يُمَسِّكُون » : أنَّه محل جر نسقاً على :« الَّذين يَتَّقُونَ » أي : والدّار الآخرةُ خير للمتقين، وللمتمسكين، قاله الزمخشريُّ.
إلاَّ انه قال : ويكون قوله :﴿ إنَّا لا نُضيعُ ﴾ اعتراضاً سيق لتأكيد ما قبله. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لَمْ يقعْ بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويُّ، فكان ينبغي أن يقول : ويكون على هذا مستأنفاص.
وقرأ العامَّةُ « يُمَسِّكُونَ » بالتشديد مِنْ « مَسَّك » بمعنى « تَمَسَّكَ » حكاه أهلُ التصريف أي : إنَّ :« فَعَّلَ » بمعنى « تفَعَّل »، وعلى هذا فالباءُ للآلة، كهي في « تَمَسَّكْتُ بالحبل ».
يقال : مَسَّكْتُ بالشَّيء، وتَمَسَّكْتُ، واسْتَمْسَكْتُ به، وامتسَكْتُ به.
وقرأ أبو بكر عن عاصم، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية « يُمْسِكُونَ » بسكون الميم وتخفيف السين من « أمْسَكَ » وهما لغتان يقال : مَسَكْتُ، وأمْسَكْتُ.
وقد جمع كعبُ بنُ زهير بينهما في قوله :[ البسيط ]
٢٦١٣ - ولا تُمَسِّكُ بالعهدِ الذي زَعَمَتْ | إلاَّ كَمَا تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ |
قال تعالى :﴿ وَيُمْسِكُ السمآء ﴾ [ الحج : ٦٥ ] فعلى هذا مفعوله محذوف، تقديره : يُمسِكون دينهم وأعمالهم باكتاب، فالباء يجوزُ أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي مصاحبين للكتابِ، أي : لأوامره ونواهيه.
وحجة عاصم قوله تعالى :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ]، وقوله :﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]، وقوله :﴿ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ [ المائدة : ٤ ].
قال الواحديُّ : والتشديدُ أقوى؛ لأنَّ التشديد للكثرة، وههنا أريد به الكثرة؛ ولأنَّهُ يقال : أمسكته، وقَلَّمَا يقال : أمسكت به.
وقرأ عبد الله والأعمش :« اسْتَمْسَكُوا »، وأبي :« تَمَسَّكُوا » على الماضي، وهو جيّد لقوله تعالى :﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة ﴾ إذ قل ما يعطف على مستقبل إلاَّ في المعنى.
فصل
أراد والذين يعملون بما في الكتاب.
قال مجاهدٌ : هم المؤمنون من أهل الكتاب ك : عبد الله بن سلام وأصحابه تمسَّكوا بالكتاب الذي جاء به موسى، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مكلةً.
وقال عطاء : أمة محمد ﷺ.
﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين ﴾ أي : لا نضيع أجرهم، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ [ الكهف : ٣٠ ].
فإن قيل : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر؟ فالجوابُ : أفردها لعلو مرتبتها، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان.