والثاني : أنَّهُ منفصل - وبه قال ابنُ عطيَّة -، وسبقة إليه مكيٌّ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك.
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على مسألة خلق الأعمالِ؛ لأنَّ الإيمانَ نفع والكفر ضرٌّ؛ فوجب أن لا يحصلان لاَّ بمشيئةِ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك الدَّاعية الجازمةِ يكونُ مريداً للكفر، فعلى جميع التقديرات : لا يملكُ العبدُ لنفسه نفعاً، ولا ضرّاً إلا ما شاء اللَّهُ.
أجاب القاضي عنه بوجوه :
أحدها : أن ظاهر الآية، وإن كان عاماً بحب اللَّفْظِ إلاّ أنَّا ذكرنا أنَّ سبب النُّزُولِ قولُ الكُفَّارِ :« يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو » فيُحمل اللفظُ العام على سبب نزوله، فيكُونُ المرادُ بالنفع : تملك الأموال وغيرها، والمراد بالضرّ وقت القحط وغيره.
وثانيها : أنَّ المُرادَ بالنَّفْع والضر ما يتَّصلُ بعلم الغيبِ لقوله :﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ].
وثالثها : أن التقدير : لا أملكُ لنفسي من النَّفع والضر إلاَّ قدر ما شاء اللَّهُ أن يقدرني عليه ويمكنني فيه، وهذه الوجوه كُلُّهَا عدول عن الظَّاهر، فلا يُصار إليها مع قيام البُرهانِ القاطع العقلي على أن الحق ليس إلاَّ ما دل عليه ظاهر الآية.
فصل
احتج الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - على عدم علمه بالغيب بقوله :﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير ﴾ واختلفوا في المراد بهذا الخيرِ وقوله ﴿ وَمَا مَسَّنِيَ السواء ﴾ قال ابنُ جريجٍ :
قل لا أملك لنفسي نفعاً، ولا ضرّاً من الهدى والضلالة، ولو كنت أعلمُ متى أموت لاستكثرت من الخير، أي : من العمل الصَّالح وما مَسَّنِيَ السُّوءُ، واجتنبت ما يكون من الشَّر واتَّقَيْتُهُ.
وقيل : لو كنت أعلم الغيب أي : متى تقوم السَّاعةُ لأخبرتكم حتَّى تُؤمنُوا وما مَسَّني السُّوءُ بتكذيبكم.
وقيل : ما مسني السُّوء ابتداء يريد : وما مسَّنيَ الجنونُ؛ لأنَّهُم كانوا ينسبونه إلى الجُنُونِ، وقال ابنُ زيدٍ : المرادُ بالسُّوءِ : الضرُّ، والفقرُ، والجوعُ.
قوله ﴿ وَمَا مَسَّنِيَ السواء ﴾ عطف على جواب « لو » وجاء هنا على أحسن الاستعمال من حيث أثبت اللاَّم في جواب « لَوْ » المثبت، وإن كان يجوزُ غيره، كما تقدَّم، وحذفَ اللاَّم من المنفيّ، لأنه يمتنع ذلك فيه.
وقال أبُو حيَّان : ولم تصحب « مَا » النَّافية - أي : اللام - وإن كان الفصيحُ إلاَّ تصحبها، كقوله :﴿ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ ﴾ [ فاطر : ١٤ ]. وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَضُّوا على أنَّ جوابها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللاَّم عليه.
قوله :﴿ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ نذير لمن لا يُصدق بما جئت به، وبشير بالجنَّةِ لقوم يصدقون.
وذكر إحدى الطائفتين؛ لأنَّ ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى، كقوله :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ].
وقد يقال : إنه كان نذيراً وبشيراً للكل إلاَّ أنَّ المنتفع بالنذارة والبشارة هم المؤمنون كما تقدَّم في قوله :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ].
واللاَّمُ في قوله [ القوم ] من باب التَّنازُعِ، فعند البصريين تتعلقُ ب « بَشِير » لأنه الثَّاني، وعند الكوفيين بالأول لسبقه.
ويجوز أن تكون المتعلٌّق بالنذارة محذوفاً، أي : نذير للكافرين ودلَّ عليه ذكرُ مقابله كما تقدم.