قال مقاتلٌ : حمل نوحٌ معه جسد آدم، فجعله معترضاً بني الرِّجال والنِّساء.
وقال الحسنُ : لم يحمل نوحٌ في السفينة إلاَّ ما يلد ويبيض فأما ما يتولَّد من الطين؛ فالحشرات، والبقِّ، والبعوض؛ فلم يحمل منه. ثم قال تعالى ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾ يعني : حكم الله عليه بالهلاك، وهو ابنه، وزوجته، وكانا كافرين، فأما ابنه فهو يام، وتسميه أهل الكتاب : كنعان، فهو الذي انعزل عنه، أما امرأةُ نوحٍ، فهي أمِّ أولاده كلهم : حام، وسام، ويافث، وهو أدرك؛ انعزل، وغرق، وعابر، وقد مات قبل الطوفان، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك.
فإن قيل : الإنسان أشرف من سائر الحيواناتِ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات؟
فالجوابُ : أنَّ الإنسانَ عاقلٌ وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاكِ عن نفسه، فلا حاجة إلى المبالغة في التَّرغيب فيه، بخلاف السَّعْي في تخليص سائر الحيوانات؛ فلهذا وقع الابتداء به.
فإن قيل : الذين دخلوا السَّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله :﴿ إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴾ [ الشعراء : ٥٤ ] ؟ فالجواب : كلا اللفظين جائز، والتقدير - ههنا - : وما آمن معه إلا نفر قليل.
فصل
احتجوا بقوله ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾ في إثبات الفضاءِ السَّابق والقدر الوجب، لأنَّ قوله ﴿ سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ ﴾ يدلُّ على أنَّ من سبق عليه القول ومن آمَنَ لا يغيَّرُ عن حاله، فهو كقوله - ﷺ - :« السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه ».
قال تعالى :﴿ وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا ﴾.
يجُوزُ أن يكون فاعلُ « قَالَ » ضمير نوح - ﷺ -، ويجوزُ أن يكون ضمير الباري - تعالى جل ذكره - أي : وقال الله لنوح ومنه معهُ. و « فِيهَا » متعلقٌ ب « ارْكَبُوا » وعُدِّي ب « في » لتضَمُّنه معنى « ادخلوا فيها راكبين » أو سيروا فيها.
وقيل : تقديره : اركبوا الماء فيها. وقيل :« في » زائدة للتَّوكيد.
والركوب : العلو على ظهر الشيءِ، ومنه ركوب الدَّابة، وركوب السَّفينة، وركوب البحر، وكل شيء علا شيئاً، فقد ركبه، ويقال : ركبه الدَّين. قال الليثُ - رحمه الله - : وتسمي العربُ من يركبُ السَّفينة : رُكَّابَ السَّفينة، وأمَّا الركبانُ، والأركُوبُ، والرَّكْبُ : فركَّابُ الدَّوابِّ.
قال الواحدي : ولفظة « فِي » في قوله « ارْكَبُوا فيهَا » لا يجوز أن تكون من صلة الركوب؛ لأنَّه يقال : ركبت السفينة ولا يقال : ركبت في السَّفينة، بل الوجهُ أن يقول مفعول « ارْكَبُوا » محذوف والتقدير :« اركبوا الماء في السَّفينة ».
وأيضاً يجوز أن تكون فائدة هذه الزيادة، أنَّه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال : اركبوها، لتوهَّمُوا أنَّه أمرهم أن يكونوا على ظهر السَّفينة.