وأصلُ هذه اللفظة بثلاث ياءات : الأولى للتَّصغير، والثانيةُ لامُ الكلمة، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالةِ أو مبدلةٌ من واوٍ؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أول الكتاب في لام « ابن » ما هي؟ والثالثة ياءُ المتكلِّم مضافٌ إليها، وهي التي طرأ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالها.
فصل
لمَّا حكى عن نوح أنَّه دعا ابنه إلى رُكوبِ السَّفينة حكى عن ابنه أنَّهُ قال :﴿ سآويا إلى جَبَلٍ ﴾ سأصير وألتَجِىءُ إلى جبل ﴿ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء ﴾ يمنعني من الغرقِ، وهذا يدل على أنَّ الابنَ كان مُصِرّاً على الكفر، فعند هذا قال نوحٌ :﴿ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله ﴾ أي : من عذابِ الله ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ﴾. وههنا سؤال :
وهو أن الذي رحمه الله معصومٌ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم؟
والجواب من وجوه :
الأول : أنَّهُ استثناءٌ منقطع، وذلك أن تجعل « عَاصماً » على حقيقته، و « مَنْ رَحِمَ » هو المعصوم، وفي « رَحِمَ » ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على الله تعالى، ومفعولهُ ضميرُ الموصولِ وهو « مَنْ » حذف لاستكمالِ الشروطِ، والتقديرُ : لا عاصم اليوم ألبتة من أمر الله، لكن من رحمه الله فهو معصوم.
الثاني : أن يكون المراد ب « مَنْ رَحِمَ » هو الباري تعالى كأنه قيل : لا عاصم اليومَ إلاَّ الرَّاحمَ.
الثالث : أنَّ عاصماً بمعنى معصُوم، وفاعل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو :﴿ مَّآءٍ دَافِقٍ ﴾ [ الطارق : ٦ ] أي : مَدْقُوق؛ وأنشدوا :[ المتقارب ]
٢٩٧٥- بَطِيءُ القيامِ رَخِيمُ الكَلاَ | مِ أمْسَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا |
الرابع : أن يكون « عاصم » هنا بمعنى النَّسب، أي : ذا عِصْمَة نحو : لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمراد به هنا المعصوم.
وهو على هذه التَّقادير استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشريُّ متصلآً لمدرك آخر، وهو حذفُ مضافٍ تقديره : لا يعصمك اليوم مُعْتَصمٌ قط من جبلٍ ونحوه سوى مُعْتَصمٍ واحدٍ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في السفينة.
وأمَّا خبرُ « لا » فالأحسنُ أن يجعل محذوفاً، وذلك لأنَّهُ إذا دلًَّ عليه دليلٌ؛ وجب حذفه عند تميم، وكثر عند الحجاز، والتقدير : لا عاصم موجودٌ.
وجوَّز الحوفيُّ وابنُ عطيَّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفيُّ : ويجوز أن يكون « اليَوْمَ » خبراً فيتعلَّق بالاستقرار، وبه يتعلق « منْ أمْرِ اللهِ ».
وقد ردَّ أبو البقاءِ ذلك فقال : فأمَّا خبرُ « لا » فلا يجوزُ أن يكون « اليَوْمَ » ؛ لأنَّ ظرف الزَّمان لا يكون خبراً عن الجُثَّة، بل الخبرُ « مِنْ أمْرِ الله » و « اليَوْمَ » معمولُ « مِنْ أمْرِ اللهِ ».