واعلم أنَّهُ سبحانه أخبر بأنَّ الأمم النَّاشئة الذين كانوا مع نوحٍ لا بدَّ وأن ينقسمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ.
ثم قال :﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب ﴾ وقد تقدَّم الكلامُ فيها عند قوله ﴿ ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب ﴾ [ آل عمران : ٤٤ ] في آل عمران. و « تلك » في محلِّ رفع على الابتداء، و ﴿ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب ﴾ الخبر، و « نُوحِيهَا إليْكَ » خبر ثان.
قوله :﴿ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ ﴾ يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكون حالاً من الكاف في « إليك » وأن تكون حالاً من المفعول في « نُوحيهَا » وأن تكون خبراً بعد خبر.
والمعنى : ما كنت تعلمُها أنت يا محمدُ ولا قومك، أي : إنَّك ما كنت تعرفُ هذه القصة وقومك أيضاً ما كانوا يعرفونها، كقول الإنسان لآخر : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك.
فإن قيل : أليس قد كانت قصة الطوفان مشهورة عند أهل العلم؟.
فالجواب : أنها كانت مشهورة بحسب الإجمال، أمَّا التَّفاصيلُ المذكورة فما كانت معلومة.
ثم قال تعالى :« فاصْبِرْ » يا محمد أنت وقومك على أولئك الكفار « إنَّ العافيةَ » آخر الأمر والنّصر والظّفر « لِلْمُتَّقين ».
فإن قيل : إنَّه ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم أعادها، فما فائدة هذا التكرار؟.
فالجوابُ : أنَّ القصة الواحدة قد ينتفعُ بها من وجوه، ففي السورةِ الأولى كان الكفار يستعجلُون نزول العذاب، فذكر - تعالى - قصة نوح وبيَّن أنَّ قومه كانُوا يكذبُونه بسبب أنَّ العذابَ ما كان يظره ثُمَّ في العاقبةِ ظهر، فكذا في واقعة محمد - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه -، وفي هذه السورة ذكر القصة لبيان أنَّ إقدامَ الكُفَّار على الإيذاء، والإيحاش كان حاصلاً في زمن نُوح، فلمَّا صبر نال الفتح والظفر، فكن، يا مُحمَّدُ، كذلك لتنال المقصود، فلمَّا كان الانتفاعُ بالقصة في كُلِّ سُورة من وجهٍ لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدةِ.