قوله :﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى ﴾ القصة.
قال النحويون : دخلت كلمة « قَدْ » ها هنا لأنَّ السَّامع لقصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يتوقع قصة بعد قصة، و « قَدْ » للتوقع، ودخلت اللاَّم في « لَقَدْ » تأكيداً للخبر.

فصل


لفظ « رُسُلُنَا » جمع وأقله ثلاثة، فهذا يدلُّ على أنهم كانوا ثلاثة، والزَّائِدُ على هذا العددِ لا يثبتُ إلاَّ بدليل آخر، وأجمعُوا على أنَّ الأصلَ فيهم كان جبريلُ - عليه السَّلامُ -.
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - :« كانوا ثلاثة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وهم المذكورون في الذَّاريات ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الذاريات : ٢٤ ] وفي الحجر ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الحجر : ٥١ ].
وقال الضحَّاكُ :»
كانوا تسعة «. وقال محمد بن كعب - رضي الله عنه - » كان جبريل ومعه سبعة « وقال السُّديُّ :» أحد عشر ملكاً « وقال مقاتل :» كانوا اثني عشر ملكاً على صور الغلمان الوضاء وجوههم «.
»
بالبشرى « بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل : بسلامة لوطٍ، وأهلاك قومه.
قوله :﴿ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ : في نصبه وجهان :
أحدهما : أنَّه مفعولٌ به، ثم هو محتملٌ لأمرينِ :
أحدهما : أن يراد قالوا هذه اللفظ بعينه، وجاز ذلك لأنَّه يتضمَّن معنى الكلام.
الثاني : أنَّهُ أراد قالوا معنى هذا اللفظ، وقد تقدَّم نحو ذلك في قوله تعالى :﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ [ البقرة : ٥٨ ].
وثاني الوجهين : أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوفٍ، وذلك الفعلُ في محلِّ نصب بالقول، تقديره : قالوا : سَلَّمْنَا سلاماً، وهو من باب من ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه، وهو واجب الإضمار.
قوله :»
سَلاَمٌ « في رفعه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مبتدأ وخبره محذوفٌ، أي : سلامٌ عليكم.
والثاني : أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي : أمْرِي أو قَوْلِي سلام.
وقد تقدَّم أنَّ الرفع أدلُّ على الثُّبوتِ من النَّصْبِ [ الفاتحة : ٢ ]، والجملة بأسرها - وإن كان أحد جزأيها محذوفاً - في محلِّ نصب بالقول؛ كقوله :[ الطويل ]
٢٩٨٥- إذَا ذَقْتُ فَاهَا قُلْتُ : طَعْمُ مُدَامَةٍ........................
وقرأ الاخوان :»
قَالَ سِلْم « هنا وفي سورة الذَّاريات بكسر السين وسكون اللاَّم.
ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف، قال الفرَّاءُ :»
هُما لغتان كحِرْم وحَرَامٍ وحِلٍّ وحلالٍ « ؛ وأنشد [ الطويل ]
٢٩٨٦- مَرَرْنَا فَقُلْنَا : إيهِ سِلْمٌ فَسلَّمْتْ... كَمَا اكْتَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوَائِحُ
يريد : سلامٌ؛ بدليل : فسلَّمَتْ.
وقال الفارسي :»
السِّلْم « بالكسر ضد الحربِ، وناسبَ ذلك لأنَّهم لمَّا امتنعوا من تناول ما قدَّمهُ إليهم، أنكرهم، وأوجس منهم خيفة، فقال : أنا سِلْم، أي : مُسَالمكم غيرُ محارب لكم، فلم تمتنعوا من تناول طعامي؟
قال ابنُ الخطيب - رحمه الله - : وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلُّم إبراهيم - ﷺ - بهذا اللفظ بعد إحضار الطَّعام، والقرآن يدل على أنَّ هذا الكلام قبل إحضار الطَّعام؛ لأنَّه تعالى قال :﴿ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ والفاءُ للتَّعقيب، فدلَّ على أنَّ مجيئَهُ بالعجل الحنيذِ بعد السَّلام.


الصفحة التالية
Icon