فالجواب من وجوه :
الأول : أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام.
الثاني : قوله :﴿ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان ﴾ نهي عن التنقيص، وقوله :﴿ أَوْفُواْ المكيال والميزان ﴾ أمر بإيفاء العدل، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه، لأنَّا نقول : الجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقولُ : صل قرابتك، ولا تقطعهم؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد.
وثانيهما : ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات، ولم ينه عن المبايعات، وإنَّما منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثاً :﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ ﴾ فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان. ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء، فدل ذلك على أنها غير مكررة، بل في كل واحدة فائدة زائدة.
الوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى :﴿ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان ﴾ وفي الثانية قال :﴿ أَوْفُواْ المكيال والميزان ﴾ والإيفاءُ : عبارة عن الإتيان به على الكمالِ والتَّمام، ولا يحصلُ ذلك إلاَّ إذا أعطى قدراً زائداً على الحق، ولهذا المعنى قال الفقهاءُ : إنَّهُ تعالَى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصلُ إلاَّ عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرَّأس.
فالحاصلُ : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النُّقصان، وفي الثانية أمَرَ بإعطاء شيءٍ مِنْ الزيادة، فكأنَّه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً ليحصل له تلك الزيادة، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج مالهُ من غير العوض.
وقوله :« بالقسط » يعني : بالعدلِ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقِّ بحيث يحصلُ معه اليقين بالخُروجِ عن العهدةِ، فالأمرُ بإيتاء الزِّيادةِ على ذلك غيرُ حاصل.
والبخس : هو النَّقْضُ.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾.
فإن قيل : العثوُّ : الفسادُ التَّامُّ، فقوله :﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ جار مجرى قولك : ولا تفسدُوا في الأرض مفسدين.
فالجوابُ من وجوه :
الأول : أن من سعى في إيصال الضَّرر إلى الغير، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله :﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ ولا تسعوا في إفسادِ مصالح الغير، فإنَّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم.
والثاني : أن يكون المرادُ من قوله :﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ مصالح الأديان والشرائع.


الصفحة التالية
Icon