والثاني : أنَّ المراد من الرَّحمةِ الإيمان والطَّاعة وهي أيضاً وهي أيضاً ما حصلت إلاَّ بتوفيق الله.
ثم قال :﴿ وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾ وعرَّف « الصَّيحة » بالألف واللاَّم إشارة إلى المعهود السَّابق وهي صيحةُ جبريل ﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ ﴾ تقدم الكلام على ذلك [ هود : ٦٧، ٦٨ ] وإنَّما ذكر هذه اللفظة، وقاس حالهم على ثمود؛ لأنه تعالى عذَّبهم بمثل عذاب ثمود.
قوله :﴿ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ العامَّةُ : على كسر العين من « بَعِدَ يَبْعَد » بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك؛ قال :[ الطويل ]
٣٠١٠- يقُولُون لا تَبعَدوَهُم يَدْفنُونهُ | ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُواري الصَّفَائِحُ |
وقرأ السُّلمي وأبو حيوة « بَعْدت » بالضم أخذه من ضدِّ القرب؛ لأنَّهُم إذا هلكوا فقد بعدوا، ومن هذا قولُ الشَّاعر :[ الكامل ]
٣٠١١- مَنْ كَانَ بَيْنَكَ في التُّرابِ وبَيْنَهُ | شِبْرانِ فهُوَ بغايةِ البُعْدِ |
وقال ابنُ قتيبة : بَعِدَ يَبْعد إذا كان بعده هلكهة، وبَعُد يَبءعُد إذا نأى فهو موافقٌ للنحاس.
وقال المهدوي :« بَعُد » يستعمل في الخَيْرِ والشّر، و « بَعِد » في الشرِّ خاصة.
وقال ابنُ الأنباري : مِنَ العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ والذي هو ضدُّ القرب، فيقولُ فيهماك بَعُدَ يَبْعثدُ، وبَعِدَ يَبْعَدُ؛ وأنشدوا قول مالكٍ :[ الطويل ]
٣٠١٢- يقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهُمْ يَدْفِنُونِني | وأيْنَ مَكَانَ البُعْدِ إلاَّ مَكَانِيَا |
وفي هذه الآية نوعٌ من علم البيان يسمَّى الاستطراد، وهو أن تمدحَ شيئاً أوتذُمَّه، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غرضكَ في أوَّلِه، قالوا : ولم يَأتِ في القرآن غيره، وأنشدوا في ذلك قول حسان :[ الكامل ]
٣٠١٣- إنْ كُنْتِ كاذِبَة الذي حَدَّثْتِنِي | فَنَجَوْتِ مَنْجى الحَارِثِ بن هشام |
تَرَك الأحِبَّةَ أن يَقاتِلَ دونَهُمْ | ونَجَا بِرَأسِ طِمِرَّة ولِجَامِ |