قوله تعالى :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ﴾ الآية.
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ ﴾ : مبتدأ وخبر، والقاصُّك الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه، قال تعالى :﴿ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ [ القصص : ١١ ]، أي : أتَّبعي أثره، ﴿ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ [ الكهف : ٦٤ ]، أي اتِّباعاًنن وسميت الحكايةَ قصصاً؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً، كما يقال : تلا القرآنَ إذا قرأهُ؛ لأنَّه يتلُو، أي : يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ، والمعنى : نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ، والقرُونِ الماضية.
روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال : لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله ﷺ فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً، فقالوا : يَا رسُولَ الله ﷺ لوْ حَدَّثتنَا ت فأنْزَل اللهُ تعالى ذكره ﴿ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] فقالوا : يا رسول الله، لو ذكرتنَا، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله ﴾ [ الحديد : ١٦ ].
قوله :﴿ أَحْسَنَ القصص ﴾ في انتصابه وجهان :
أحدهما : أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول، كالخلقِ بمعنى : المخلُوقِ، أو جعلته فعلاً بمعنى : مفعُول، كالقَبْضِ، والنَّقْضِ بمعنى : المَقْبُوض، والمَنْقُوض، أي : نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصةن فيكون معنى قوله :﴿ أَحْسَنَ القصص ﴾ : لِمَا فيه من العبرة، والنُّكتة، والحكمةِ، والعجائب التي ليست في غيرها.
فإحدى الفوائد في هذه القصة : أنه لا دافع لقضاءِ الله، ولا مانع من قدر الله، وأنَّهُ تعالى إذا قضى لإنسان بخير؛ فلو اجتمع العالمُ، لمْ يقدروا على دفعه.
والفائدة الثانية : أنََّهَا تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ، والنُقصَانِ.
والفائدة الثالثة : أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج، كما في حقِّ يعقُوب ﷺ ؛ فإنَّه لما صبر، نال مقصُوده، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه.
والوجه الثاني : أن يكون منصوباً على المصدر المبين، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً، أي : نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص.
وعلى هذا؛ فالحسنُ يعُود إلى حسن البيان، لا إلى القصَّة، والمراد بهذا الحسن : كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كمتب التَّواريخ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة، والبلاغة.
و « أحْسَنَ » : يجوز أن يكون : أفعل تفضيل على بابها، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها، أي : القصص الحسن.
قال العلماء رضي الله عنهم : ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن، وكرَّرها بمعنى واحدٍ، في وجوهٍ مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات المبالغة، وقد ذكر قصة يوسف ﷺ ولم يكرِّرها؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرِّر.