والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر، يعني : الأمر كذلك، وقد تقدم نظيره.
قوله :﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه، والتقدير : وهو يعلمك، والأحاديث : جمع تكسير، فقيل : لواحد ملفوظٍ به، وهو « حَدِيث » ولكنَّه شذَّ جمعه على : أحاديث، وله أخوات في الشُّذُوذ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع، وأعَارِيض، في « بَاطل وقَطيع وعَروض ».
[ وزعم ] أبو زيد :« أن لهَا واحداً مقدراً، وهو » أحْدُوثة « ونحوه، وليس باسم جمع؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه، نحو :» شَماطِيط «، و ﴿ أَبَابِيلَ ﴾ [ الفيل : ٣ ] ففي أحاديث أولى ».
ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله :« وهي اسمُ جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة » بما ذكرنا، ولكن قوله :« ليس بجمع أحدُوثة » صحيح؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله :« اسم جمع ».

فصل


قال الزجاج : الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء : إذا أخلصته لنفسِك، ومنه : جَبُبت الماء في الحوض، والمعنى : كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة.
وقيل : بإعلاء الدَّرجة ( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) : يريد تعبير الرُّؤيا، وسُمِّي تأويلاً؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل : ما يئول إليه عاقبة الأمْر، كان ﷺ غاية في علم التَّعبير.
وقيل : في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام.
وقيل : الأحاديث : جمع « حَدِيث »، والحديث هو الحَادثُ، وتأويلُها : مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى، وتكوينه، وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث : كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته، وجلاله.
قوله :﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ يجوز أن يتعلق « عَليْكَ » ب « يُتِمُّ » وأن يتعلق ب « نِعْمتَهُ »، وكرَّر « عَلَى في قوله :» وعَلى آلِ « لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين.
وقوله ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي : من قبلك : واعلم : أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا : بسعادات الدنيا والآخرة.
أما سعادات الدنيا؛ فالإكثار من الولدِ، والخدمِ، والأتباع، والتَّوسُّع في المال والجاه، والجلال في قلوب الخلقِ، وحسن الثَّناء وَالحمد، وَأما سعادات الآخرة، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة.
وقيل : المراد من إتمام النِّعمة : خلاصته من المحن، ويكون وجه التَّشبيه ب »
إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام « وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح
وقيل : إن إتْمَام النَّعمة هو : وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة.


الصفحة التالية
Icon