وأيضاًَ : فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ، أو هفوةٌ؛ استعظموا ذلك، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ، والتوبة، والتَّواضع، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ، والاستغفار، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب، ولا معصية.
وأيضاً : فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف ﷺ عن المعصية، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة : يوسف والمرأة وزوجها، والنسوة الشهود، ورب العالم، وإبليس.
فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فأدَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال :﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾ [ يوسف : ٢٦ ] و ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [ يوسف : ٣٣ ] وأما المرأة، فاعترفت بذلك، وقالت للنسوة :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ﴾ [ يوسف : ٣٢ ] وقالت :﴿ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ يوسف : ٥١ ] وأمَّا زوج المرأة فقوله :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ ﴾ [ يوسف : ٢٨ ٢٩ ].
وأمَّا الشهود فقوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾ [ يوسف : ٢٦ ].
وأمَّا شهادة الله تعالى : فقوله :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ﴾ [ يوسف : ٢٤ ] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات.
أولها : قوله :﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء ﴾.
وثانيها : قوله :﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء ﴾.
والثالث : قوله :﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ مع أنه تعالى قال :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
والرابع : قوله :« المُخْلصِينَ »، وفيه قراءتا، تارة باسم الفاعل، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه، وأصطفاه لحضرته، وعلى كل [ وجه ] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه.
وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ ص : ٨٢٨٣ ] فهذا إقرارٌ من إبليس بأنه ما أغواهُ، وما أضله عن طريف الهدى، فثبت بهذه الدَّلائل أنَّ يوسف ﷺ بريءٌ عمَّا يقوله هؤلاء.
وإذا عرفت هذا فنقول : الكلام على ظاهر هذه الآية [ يقع ] في مقامين :
المقام الأول : أن نقول : إنَّ يوسف ﷺ ما همَّ بها، لوقله تعالى :﴿ لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾، وجواب « لَوْلاَ » ههنا مقدمٌ، وهو كما يقالُ : قد كنت من الهَالكينَ لولا أنَّ فلاناً خلصك، وطعن الزَّجاجُ في هذا الجواب من وجهين :
الأول : أن تقديم جواب « لَوْلاَ : شاذٌّ، وغير موجود في الكلامِ الفصيحِ.